هل انطفأ شعاع الحداثة في بيروت بانطفاء مجلة «شعر»، ثمّ باندلاع الحرب الأهلية 1975؟ المسألة لا تتعلق بعمل تلك الورشة الشعرية التي جعلت من مقاهي شارع الحمرا مركزاً لتيارات الحداثة فقط، وإنما بتلك المرآة التي عكست صورة المدينة الاستثنائية كمنطقة جذب للمبدعين العرب المنفيين من بلدانهم، قبل أن تُنكّس راية الحرية تحت ضربات الحروب والهزائم والمؤامرات. هكذا يربط روبن كريسويل في أطروحته «مدينة البدايات: الحداثة الشعرية في بيروت» (2019 ــ انتقل أخيراً إلى لغة الضاد عن «دار التكوين» ــــ ترجمة وتقديم عابد إسماعيل) بين تجليات المدينة ومكانتها المحورية وموقعها الريادي في التاريخ العالمي للحداثة من جهة، وحركة الشعر الحديث المتمثلة في مشغل مجلة «شعر» (1957) من جهة ثانية. يستغرب الناقد الأميركي كيف أهمل دارسو مدن الحداثة أهمية بيروت بالمقارنة مع مدن مثل باريس، ولندن، وبرلين، و حتى شنغهاي. وتالياً، فإن هذه المراجعة تسعى إلى إعادة الاعتبار إلى هذه المدينة وفكرها المنشقّ، وعمق فهم شعراء مجلة «شعر» للحداثة المتأخرة، ورموزها في الغرب، جنباً إلى جنب مع النهضة العمرانية للمدينة الكوزموبوليتية.


لخّص يوسف الخال الأب الروحي لمشروع مجلة «شعر» بأن القصيدة كعمل فني «لا تتطلّع إلى أبعد من ذاتها، إنها خلية مستقلة، مكتفية بذاتها». لكن مشروع الحداثيين هذا جوبه بقوة من قبل المثقفين الماركسيين والقوميين العرب الذين اعتبروا فصل الأدب عن السياسة «لعنة لا تغتفر». وهو ما يفسّر «لماذا كانت نبرة الحداثيين البيروتيين نافرة وعرضةً للاستعداء، نظراً إلى تطلعهم إلى تشييد متحف جديد في وجه عتاة خصومهم» بانخراطهم في المسألة الجمالية في المقام الأول، لجهة تطويب الشاعر لنفسه كشاعر، وفق معايير عالمية جديدة مثل تمجيد الفردانية، ونبذ شخصيات الجموع، وتغييب البيئة المحليّة، إلا أن ادعاء الاستقلالية الأدبية وما رافقه من شعارات عن الحرية الثقافية والفكرية، تعرّض للخلخلة بسبب الدعم المؤسساتي (منظمة حرية الثقافة)، فضلاً عن بعض المنظمات الطليعية المرتبطة بوكالة الاستخبارات الأميركية التي كانت تدعم المثقفين المناهضين للشيوعية.
يستدرك روبن كريسويل بأن مجلة «شعر» بقيت حركة شعرية محضة لا حزبية. تنطوي هذه الأطروحة إذاً، على قراءة تتأرجح بين النقد الشعري والتاريخ الفكري، ملتفتاً على نحوٍ خاص إلى تجربتين متفرّدتين، هما تجربتا أدونيس وأنسي الحاج كنموذجين للحداثة الشعرية العربية، فيما يهمل تجارب الآخرين. في الشوارع المجاورة، سنقع على مشاريع منافسة مثل مجلة «الآداب» بختمها الباريسي ورياحها الوجودية، ومجلة «الطريق» ذات النبرة الشيوعية. ومثلما حضر سان جون بيرس، وعزرا باوند، وآرتو، على صفحات مجلة «شعر»، سيحضر جان بول سارتر بوصفه أباً روحياً لمجلة «الآداب»، بالإضافة إلى لوركا، وأندريه مارلو. وستعتني «الطريق» بتجارب برتولد بريخت، وناظم حكمت، ويفغيني يفتشينكو، في تجاذبات وصراعات حول مفهوم الأدب العالمي، وإعلاء قيمة «العالمية» كنقيض للمحلية هنا، و«الأمة» هناك.
الثقافة المغايرة التي تبناها شعراء مجلة «شعر» لم تنفصل عملياً عن حداثة بيروت الليبرالية لجهة «عولمة الحقل الثقافي المحلّي». وبذلك كانت المجلة تعمل على إعادة رسم خريطة للشعر العربي باستيراد أنماط أدبية جديدة (قصيدة النثر)، و«ترويض الأجناس الشعرية الكلاسيكية»، ونسف الإرث الماضوي، فالتراث العربي، وفقاً لتصوّرات متمردي الحداثة، لا قيمة له إلا بحدود التناغم مع الحضارة الإنسانية الأوسع، وإذا ببيروت تتحوّل تدريجاً إلى «مختبر أوتار متعددة ومتضاربة». حلّ السيّاب ضيفاً على «خميس مجلة شعر» متوّجاً بجائزة الدار، ومسبوقاً بتحفته «أنشودة المطر»، فمنحها دفقاً إضافياً، لكنه أعلن حذره من اندفاعات هؤلاء الراديكاليين، عائداً- في نهاية المطاف- إلى فضاء مجلة «الآداب» العروبية. هذا الحراك المحتدم، لن نجده لاحقاً، لا في بيروت أو سواها من العواصم العربية، فقد خفتت أضواء المدينة، وتفرّق شمل الرفاق. أسس أدونيس مجلته «مواقف»، وهجا محمد الماغوط أصدقاء الأمس بقوله «قل لأحدهم ثلاث مرات المتنبي، يسقط مغمى عليه، بينما قل له جاك بريفير فينتصب ويقفز عدة أمتار عن الأرض».
يحيل عنوان هذه الأطروحة إلى عبارة قالها أدونيس بعد وصوله إلى بيروت قادماً من دمشق وعذابات سجن المزّة: «منذ لامست قدماي ترابها، وبدأت أشرد في شوارعها، شعرت أنها مدينة أخرى: ليست مدينة النهايات كمثل دمشق، وإنما هي مدينة البدايات». لكن نصّ بيروت سيتواتر في ذاكرة صاحب «مهيار الدمشقي» في أكثر من مرآة، فهي «مسرح دمى، أحياناً، ومسرح دم، أحياناً أخرى»، و«ليست مستودع أجوبة. إنها بالأحرى رحم لتوليد الأسئلة» (بيروت ثدياً للضوء)، و«هذه المدينة البحرية مشروع مفتوح لا يكتمل، وأنها كمثل الشعر يُعاد ابتكارها باستمرار. بهذا المعنى تصبح هجرة الشاعر من دمشق إلى بيروت سفراً عكس عقارب الساعة. من مدينة مكتملة مقفلةٍ على نفسها إلى أخرى تعيد تشكيل هويتها باستمرار، وتشرع نوافذها للعواصف» (ها أنت أيها الوقت).
يستغرب الناقد الأميركي كيف أهمل دارسو مدن الحداثة أهمية بيروت مقارنة بباريس، ولندن، وبرلين، وحتى شنغهاي


في مقدمته للكتاب، يختلف عابد إسماعيل مع روبن كريسويل حول تفتّح حداثة أدونيس في بيروت، فالشرارة الأولى لمشروعه الحداثي يجدها في قصيدته «قالت الأرض» (1950) التي كتبها قبل مجيئه إلى بيروت بسنوات... القصيدة التي تضمر رموزاً حداثية مبتكرة رغم معمارها الكلاسيكي. من جهته، يتتبع كريسويل التضاريس الشعرية لتجربة أدونيس بوصفها ذروة الحداثة العربية، حتى إنّنا نخال أن هذه الأطروحة تخصّ عمل صاحب «الثابت والمتحوّل» دون سواه، لولا التفاتة لاحقة لمشغل أنسي الحاج الشعري. على المقلب الآخر، تتشكّل صورة بيروت بوصفها «هدنة أيديولوجية»، وتالياً، فهي ليست ساحة لعب كما يرى الآخرون بقدر ما هي ساحة معركة، وحرب مواقع، ومنفى لكل المهجّرين من بلدانهم بعيداً عن شبح الدولة. وبناء على ذلك، فإن تجربة لبنان «تُعتبر انزياحاً عن القاعدة، بالمعايير المحليّة وحتى العالمية». لم تكن المعركة حول أصالة قصيدة النثر أقلّ سجالاً، وهنا يستدعي الكتاب بعض تلك المعارك التي شهدتها الساحة البيروتية. سينال أنسي الحاج صفعة من مناصري مجلة «الآداب» باعتباره «سفيهاً يفتقر إلى التهذيب»، و«الغلام الأرعن الذي يطلب الشهرة عن سبيل الشتائم والصفاقات والبذاءات السفيهة». لكن مجموعة «لن» (1960) بمقدمتها المتفجّرة، ستكون بمثابة شراع السفينة المبحرة بلا هوادة نحو المستقبل، فهي التي وضعت قصيدة النثر في قلب السجال النقدي حول حركة الحداثة، وهي الأكثر راديكاليةً و إرباكاً وتمرّداً، بالمقارنة مع نصوص الآخرين.
لكن مهلاً، تعالوا نستعيد أخيراً، صورة بيروت خارج الكادر. بيروت محمود درويش «بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام»، وبيروت نزار قباني «يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ/ مَنْ باعَ أساوركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟».