تصاعد أفكار اليمين المتطرّف والحركات الشعبوية في الولايات المتحدة وإيطاليا والبرازيل والهند، تزامناً مع تجربة الإغلاق العالمي خلال جائحة كوفيد 19 حين أحكمت الحكومات قبضتها على حياة الشعوب، أدّى إلى تزايد الانقسام داخل النظرية السياسية بين أولئك الذين يجادلون بأن الديمقراطية الليبرالية هي الحل للديكتاتورية الشمولية، وأولئك الذين قد يجادلون بأن عناصر الشمولية متأصّلة في الديمقراطية نفسها، مُحتكمين إلى تلك الفروق الأرسطية التي تقول بأنّه لا يمكن أن يكون لديك شكل خالص لأي نظام سياسي.نقاش يجعل أعمال الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة أرندت (1906 – 1975) ذات أهمية راهنة، علماً أنّها تنتمي إلى القائلين بأن عناصر الشمولية ستستمر في الوجود في العالم أينما كانت هناك معاناة سياسية واجتماعية واقتصادية بغضّ النظر عن شكل النظام السياسي، لكنّ أعمالها تناولت بشكل تحليلي نقد معاداة السامية والاستعمار والعنصرية والنازية والستالينية.

رفضت بشدة السياسة المركّزة حول الهويات واختلفت مع أفكار روزا لوكسمبورغ ووصفت سيمون دو بوفوار بالغبية

حنة أرندت التي تعود إلى الواجهة من خلال ترجمة كتابها «التفكير الحر» (ترجمة مالك سلمان ـــ دار الساقي/ راجع المقال أدناه)، ولدت عام 1906 لأبوين يهوديين بالقرب من هانوفر، ونشأت في الدوائر المتعلمة في كونيغسبيرغ. في عام 1924، بدأت بدراسة الفلسفة واللاهوت، أولاً في ماربورغ، ولاحقاً في فرايبورغ وهايدلبرغ، وحصلت على الدكتوراه في الفلسفة عام 1928. في وقت باكر عام 1931، توقّعت أرندت أنّ النازيين سيصلون إلى السلطة، ما دفعها إلى الهجرة إلى فرنسا لتعمل مع بعض المنظمات الصهيونية الشبابية لمساعدة اليهود في باريس إلى جانب عملها الأكاديمي. هناك التقت بهاينريش بلوشر، الرجل الذي سيصبح زوجها في ما بعد. وجراء نشاطها في الأوساط اليهودية، سُجنت في معسكر اعتقال جنوب غرب فرنسا، قبل أن تتمكن مِن الفرار عام 1941 مع زوجها ووالدتها إلى نيويورك عبر لشبونة، لتحصل لاحقاً على الجنسية الأميركية عام 1951.
خلال الأربعينيات، كتبت أرندت مقالات عن معاداة السامية واللاجئين والحاجة إلى جيش يهودي في عدد مِن المجلات الألمانية في المهجر. عملت كذلك محررةً في Schocken Books وشغلت منصب المدير التنفيذي لـ«منظمة إعادة الإعمار الثقافي اليهودي». شهدت الخمسينيات نشر أعمال أرندت الرئيسية: «أصول الشمولية» (1951) دراستها الثاقبة للأسس الفكرية والتاريخية للأنظمة النازية والستالينية، و«الوضع البشري» (1958) الذي قدّم روايتها لتراجع الحياة العامة في العصر الحديث. أما كتاب «في الثورة» الذي نُشر عام 1963، فقد كان تعبيراً عن تأثرها الشديد بالنمط السياسي الأميركي المتعلق بالديمقراطية الدستورية والحرية السياسية، بالإضافة إلى عملها الإشكالي «أيخمان في القدس – تفاهة الشر» الذي لقي صدى واسعاً في العالم الفكري بين مؤيد ومُعارض، إذ تناولت فيه جرائم أحد قادة النازية ومدى قانونية مُحاكمته. وقد أصدرت العديد من المؤلفات مثل: «بين الماضي والمستقبل»؛ «الرجال في الأوقات المظلمة»؛ و«أزمات الجمهورية»، وكتابها الأخير غير المكتمل بعنوان «حياة العقل». نُشر مُعظم تلك الأعمال بعد وفاتها عام 1975.
لم تتولَّ أرندت أبداً وظيفة أكاديمية ثابتة، مع ذلك كانت أول أستاذة جامعية في «جامعة برينستون»، ودرّست أيضاً في «جامعة شيكاغو»، و«جامعة كاليفورنيا بيركلي»، و«جامعة ويسليان»، بالإضافة إلى مساهماتها في مجلات The New York Review of Books و Commonweal و Dissent و The New Yorker.
لم تكتب أرندت بصفة الأكاديمية أو الفيلسوفة واحتجّت بشدة على اللقب الأخير، وخصوصاً بعد عام 1933 بعد حرق الرايخستاغ وتنامي العداء الشديد لليهود في ألمانيا، والتنكيل بالشيوعيين. شاهدت كيف تحول أصدقاؤها وزملاؤها وأساتذتها إلى نازيين، ما دفعها إلى ترك عالم الفلسفة الأكاديمية. فضّلت وصفها بـ«منظِّرة سياسية»، وهذا عائد للتمييز إلى حد كبير في فهمها بأنّ «كل تفكير يأتي من التجربة». رغبت في تناول الأحداث والأفعال التاريخية بمعيارية للوصول إلى رؤى أصلية حول الاستعداد الحديث للاستبداد والتهديدات لحرية الإنسان التي يفرضها كل من التجريد العلمي والأخلاق البرجوازية.
عبارة «كل تفكير يأتي من التجربة» هي تأثير أفلاطون وكارل ياسبرز على مفهوم التفكير لدى أرندت. فلسفياً، هي لم تحِد بعيداً عما يُسمى «الظواهر المادية الغربية»، حيث تُصبح تجاربنا في العالم مادةً لتفكيرنا، ما يعني أن التغيرات في محيطنا المادي تُغيّر جودة تفكيرنا، وتؤثر على قدرتنا على التعامل مع هذه التغيرات. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل أرندت حذرة من صعود مجتمع الحداثة وفقدان التمييز بين الحياة الخاصة والعامة، وانعدام العزلة، وفقدان مساحة للتفكير، حيث يبدأ كل شيء في أن يصبح أحادي البعد ومسطّحاً ونبدأ في فقدان هذه الفروق، ما يُضعف تفكيرنا وقدرتنا على الحكم. وإذا فكّرنا بذلك في سياقنا السياسي المعاصر اليوم، فإن التكنولوجيا تتوسط معظم التجارب التي نعيشها. وهذا يعني أنها تغيّر طريقة تفكيرنا، لكن لا يعني بالضرورة التسليم بأنه تغيير سيّئ.
ظهرت مركزية مفهوم «التفكير» لدى أرندت في كتابها «أيخمان في القدس»، مُعتبرة أن القائد النازي أوتو أدولف أيخمان (تولى تنظيم عمليات الهجرة القسرية والترحيل للشعب اليهودي لتنسيق ما يسمى بالحل النهائي وبين عامي 1942 و 1945، أرسل أكثر من مليون ونصف مليون يهودي إلى معسكرات الموت) لم يكن قادراً على التفكير في أي شخص آخر، فقط فكّر في نفسه، ولم يكن عاكساً لذاته. لكنها اعتبرت جرائمه ناجمة عن فشل في التفكير، وهي قراءة أفلاطونية مفادها أنّنا لا نستطيع إلا التفكير في الفضائل: الخير والشجاعة والسعادة. لكنها لم تكن كافية لأرندت لأنّ أفلاطون وصف الشر فقط، ولم يقدم إجابة عن أصل الشر. إنه يفسر فقط وجود الشر في العالم على النقيض من الأشكال المثالية، ما دفعها لكي تُعيد قراءة أوغسطين في اعترافاته (سبق لأرندت أن كتبت أطروحة أصلاً عنه).
أراد أوغسطين أن يفهم طبيعة الشر ويثبت وجود الله، ويجادل بأن الشر ظاهرة، فالشر في القراءة الدينية ظاهرة تظهر إلى الوجود في العالم، لكنها ليست جزءاً من خلق الله. لكن في قراءة أرندت العلمانية لأوغسطين، التي لجأت فيها إلى الفينومينولوجيا الألمانية، فالشرّ لا ترتكبه الوحوش، بل البشر. لذا عندما خلقت مصطلح «تفاهة الشر»، فهي كتبت عن شكل خاص جداً من التفكير. وعندما قالت إن أيخمان كان يفتقر إلى القدرة على التفكير، كان ما تعنيه أنه يفتقر إلى القدرة على تخيل العالم من منظور آخر. أي أن الشر هو عدم وجود خيال مُتعاطِف. وهذا ما تسميه عدم التفكير. ومن الممكن أن يُفكر أيخمان، لكن مع افتقار إلى الشكل المحدد للخيال السياسي. وهذا يحسم الجدل حول هذا العمل، إذ تمّت مُهاجمة أرندت مِن قبل أغلب المثقفين الإسرائيليين آنذاك، الذين اتهموها بخيانة الشعب اليهودي، على الرغم من أنّ أرندت كانت منتبهة إلى التمييز بين المبادئ الأخلاقية التي تؤكد الضرورات الأخلاقية للعمل، وتحدثت كثيراً عن المسؤولية الأخلاقية، لكنّ قراءة البعض لها جاءت بناءً على أنّها ناشطة سياسية، فأغفلوا البعد الفلسفي في تفكيرها، ما جعل الكتاب يخرج عن سياقه ويأخذ بُعداً إشكالياً.
على صعيد آخر، فرّقت أرندت بشكل بديهي بين القيم الليبرالية والإيديولوجية الليبرالية، ما بدا واضحاً في تعبيرها الصريح عن القيم التي قد نربطها اليوم بالديمقراطية الليبرالية، مثل التعددية وحرية التعبير والحاجة إلى العمل السياسي، لكنها لا توافق على ما تسمّيه «أسطورة التقدم»، ولا ترى كيف يمكننا التمييز بين تاريخ التقدم وتاريخ الهمجية. خلال تكريمها في «جامعة تورنتو» عام 1972، سألها هانز مورجنثاو: «ماذا أنت؟ هل أنت ليبرالية، هل أنت جمهورية، هل أنت ديمقراطية؟» فقالت: «لا أعرف قط. ولا أعتقد أن هذا النوع من الأسئلة سيساعدنا في الرد على المشاكل السياسية الملحّة التي نواجهها اليوم». لكنها قالت إنّ الشيء الوحيد الذي «كنت عليه كان صهيونياً». كان ذلك من عام 1933 إلى منتصف الأربعينيات، عندما كان ذلك ضرورياً من الناحية السياسية. لكن بشكل عام كانت أرندت معادية للإيديولوجية بعمق، ما يعني أنّها لن تشترك في نوع الديمقراطية الليبرالية التي يكتب عنها المنظّرون السياسيون المعاصرون اليوم.
لأرندت مواقف جدلية: عارضت حكم المحكمة العليا في قضية «براون ضد مجلس التعليم»، وهي القضية التي ستصبح الأكثر شهرة. يومها، رفع أوليفر براون دعوى قضائية جماعية ضد مجلس التعليم في كانساس عام 1951 يرغب بدخول ابنته ليندا براون إلى أحد مدارس البيض. عُرضت القضية أمام المحكمة العليا، التي أقرّت بأنّ الفصل في المدارس العامة كان له تأثير ضارّ على الأطفال الملوّنين وأسهم في الشعور بالدونية، لكنه لم يخلّ بالمساواة. انتقدت أرندت هذا الحكم على أساس العمل السياسي، ورأت أن على الناس تحمّل المسؤولية والتصرف على المستوى اليومي للسياسة بدلاً من أن تفرض المحكمة العليا نوعاً من السياسة، فهذا يؤدي إلى تدخل أكبر من الحكومة الفيدرالية والسلطة القضائية في حياة الناس، ما يسمح بمزيد من الاستبداد. وقالت إنها لا تعتقد أن من مسؤولية الحكومة الاتحادية سنّ تشريعات للمساواة الاجتماعية. وعلى الجانب الآخر من ذلك، اعتقدت أن تشريع الحكومة الفيدرالية للمساواة الاجتماعية من شأنه أن يؤدي إلى رد فعل عنيف واسع النطاق وربما المزيد من التحيز. وأعلنت أنّ المساواة لا يمكن فرضها، بل يجب كسبها.
رفضت أرندت بشدة السياسة المركّزة حول الهويات، إذ اعتبرت أنّ الهوية هي «الفرد» وفقط، وعارضت محاولات خلق موضوع كوني للأغراض السياسية. اختلفت مع أفكار روزا لوكسمبورغ حول النسوية (1912)، إذ كانت روزا ترى مشاكل المرأة باعتبارها مشكلات اقتصادية داخل المجتمع الطبقي. لكن بالنسبة إلى أرندت، هناك ما نحن عليه، ما يظهر مِنا إلى العالم. تقول في كتابها «الوضع البشري» إنّه بمجرد أن يسألنا أحدهم «من يكون هذا الشخص؟» ننزلق بسرعة كبيرة إلى تأطيره، فإن سألتك: مَن ذاك الشخص هناك؟ إنها امرأة طويلة. لكن هذا ما أرغبه، بل إنّ الإجابة الصحيحة «لتحديد ماهية شخص ما»، هي ما يتم الكشف عنه من خلال كلامه وأفعاله. تُريد أرندت تجنيب الإيديولوجيا وكشف ما هو فريد عند الناس، وخصوصاً كشف طريقة تفكيرهم، والأصل الداخلي لشخصيتهم. وكان نقد أرندت لاذعاً لشخصية نسوية أخرى هي سيمون دو بوفوار التي عرفتها في باريس خلال الأربعينيات، وكتبت عنها في مراسلاتها مع ماري مكارثي، إذ أوردت أنّ سيمون ليست ذكية جداً ـ غبية ــ وأن من الأفضل مغازلتها من إضاعة وقتكم في محاولة التحدث معها.
في مقال لأرندت بعنوان «نحن لاجئون»، تُقدم مثالاً لشخصية السيد كوهين. كان كوهين أفضل مواطن ألماني حتى أُجبر على مغادرة ألمانيا، ثم كان أفضل مواطن فرنسي حتى أُجبر على مغادرة فرنسا، ثم كان أفضل مواطن سويسري وهكذا. فقط لأنه يهودي، كان محكوماً عليه بحياة بائسة كمتسائل من نوع يوليسيس، طالما أنه غير راغب في قبول ما هو عليه. كان هذا مُلخص تجربة اللجوء الحقيقية التي مرّت بها في باريس في الأربعينيات.
تقول في مقابلتها (عام 1964) مع غونتر غاوس بأنّ الشيء الوحيد الذي بقي لها بعد الحرب هو لغتها الأم: اللغة الألمانية. لذا رفضت أن تفقد لهجتها. كانت لغة القصائد الألمانية التي حفظتها عندما كانت طفلة في عقلها جعلتها «غريبة» و«منبوذة» في المجتمع الأميركي، لكنّها أعطتها مساحتها الخاصة من التمرد.
خطر الإيديولوجيات، والشعبوية، وتنامي العنصرية، والصوابية السياسية، وغلق المجال العام أمام الحريات


رفضت أرندت نبذ ما هي عليه، وتعاملت بوصفها يهودية ألمانية مُهاجرة إلى أميركا. فهمت إلى حد كبير بأنها تقع بين عالمين، في الفراغ البيني، بين الماضي والمستقبل. انجرفت كثيراً في السياسة الأميركية، وكانت مفتونة بالنظام السياسي والديمقراطية الأميركييْن، وكانت تعتقد حقاً أن هناك حرية مطلقة في الولايات المتحدة، وأنّ ما وحّد الأميركيين لم يكن أي نوع من القومية العرقية أو الشوفينية بالمعنى التقليدي، بل إنّ الجميع يخضع لمبادئ الدستور. لذا في مراسلاتها الباكرة مع ياسبرز على وجه الخصوص، حرصت على مقارنة السياسة الأوروبية والسياسة الأميركية، وتفضيل الأخيرة.
لم يستمر هذا الانبهار طويلاً. قرب نهاية حياتها، حذّرت من ظهور الاستبداد في الولايات المتحدة، وخصوصاً من قبل السلطة التنفيذية، ورفضت تدخّل وسائل الإعلام في السياسة، إذ بدأ التلفزيون في تشكيل النقاش العام في الستينيات، ما دفع بتغيّرات سريعة وغير إيجابية في آليات الأحزاب السياسية في التعاطي مع الانتخابات السياسية الأميركية. عارضت النزعة العسكرية التي بدأت تظهر خلال حرب فيتنام، وشاهدت نسيج الحياة العامة يتآكل نتيجة إضرابات السياسة وانعدام استقرار المؤسسات الأميركية.
لعلّ أهم شيء يمكن أن تقدمه لنا أرندت هو التحذير من خطر الإيديولوجيات، والشعبوية، وتنامي العنصرية، والصوابية السياسية، وغلق المجال العام أمام الحريات. الحل ليس من أعلى عبر السلطات والحكومات والمحاكم، بل عن طريق الانخراط السياسي الجماعي الواعي المدفوع بتفكير نقدي تحليلي جادّ. أرندت نموذج تمرّد غير تقليدي بقي ــ رغم كل النقد والعداء ومحاولات الإقصاء ــ صادقاً لأفكاره، وإن كانت بيننا اليوم قد لا تُبالي كثيراً بصراخ اليساريين في ساحات الجامعات أو بعنف اليمينيين الرمزي. ستبقى مُستقلة. لعلّ هذه هي الفضيلة الغائبة عن عالمنا السياسي اليوم.