توخّى الباحث والأكاديمي خالد البحري (أستاذ في جامعة تونس) في كتابه الجديد «عبد الكريم المراق وإسهامه في تنشيط الحياة الفلسفية في تونس» (SOTEPA GRAPHIC) الإضاءة على إسهامات المرّاق في تنشيط مسيرة الثقافة والتفكير الفلسفي في تونس منذ الاستقلال عام 1956، وهي السنة التي نال فيها المرّاق الإجازة في الفلسفة وعلم الاجتماع من جامعة بغداد. يمكن تقسيم الكتاب في فصوله الخمسة إلى قسمين: رصد خالد في القسم اﻷول، الفصل اﻷول، سيرة المرّاق الفكرية، والمهام الرسمية التي أوكلت إليه، وبراعته في جمع المشتغلين بالعلوم التربوية على اختلاف مشاربهم الفكرية. كما سلط الضوء على نشاطه الثقافي في تونس والعالم العربي، ورئاسته لـ «الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية». وتضمن القسم الثاني، في فصوله اﻷربعة، مقالات ومداخلات المرّاق في مؤتمرات وملتقيات، في تونس وغيرها من العواصم العربية، وتدور في مجملها حول موضوعات الفكر الفلسفي عند العرب، ومباحث فلسفية عامة، وبعض المشكلات الحضارية الإنسانية التي تعرّض لها، ومناقشات لآراء في مسائل اجتماعية وثقافية.

وتجلى دور المرّاق الرائد في توحيد الدراسات الفلسفية، وجعلها في صلب مناهج المعهد القومي لعلوم التربية. واكب المرّاق الخطة التي أقرتها الحكومة التونسية عام 1975 لتعريب الفلسفة، ولقّب بفارس مرحلة تعريب الفلسفة في تونس. وكان من دعاة دمج مادتي الفلسفة العربية والإسلامية والعامة (علم نفس، ومنطق، وأخلاق). وشارك في إعداد البرامج والكتب المدرسية المتعلقة بمادة الفلسفة التي اعتُمدت في الصفوف النهائية للمرحلة الثانوية ودور المعلمين. وأفاد في عمله من التجربة المشرقية (سوريا والعراق) والمصرية لتعليم الفلسفة باللغة العربية. كما أشرف على العديد من الملتقيات التربوية والبيداغوجية التي خصصت من أجل تمكين أساتذة مادة الفلسفة في التكوين المستمر.
حول نشاطات المراق الثقافية واﻻجتماعية يُذكر رئاسته لشعبة الفلسفة، وتأسيس الكشافة التونسية وإشرافه المباشر على أعمال فرقتها المسرحية، ومشاركته في إعداد وإنتاج مسلسلات وأحاديث متلفزة عن شخصيات تاريخية وعلمية.
وأسهم المرّاق في تأسيس وبعث جمعية فلسفية تونسية، فترأس هيأتها التأسيسية (أبصرت النور عام 1980) ثم انتُخب رئيساً لها في أول جلسة عامة عام 1981. وأشرف على إصدار نشرة دورية باللغة العربية، كانت توزع على أساتذة الفلسفة في تونس، ثم تحمّل مسؤولية إدارة مجلة «الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية»، وهي من أهم المحطات الفارقة في مسيرته التربوية والفكرية الفلسفية في تونس المعاصرة (من عام 1981إلى يوم رحيله عام 2017). وقد أحصى خالد آثار المرّاق في تحقيق كتاب «المنقذ من الضلال» للغزالي، و«فصل المقال» لابن رشد، ومشاركته ﻵخرين في العديد من الدراسات وكتب تعليم الفلسفة، وفي الترجمات التي أثراها بمقدمات توضيحية وتحليلات عميقة لمضامينها. كما أورد عناوين الأبحاث والمداخلات التي قدمها في الملتقيات والمؤتمرات التربوية والفلسفية التي عقدت في تونس والعواصم العربية، وهي التي تم تحقيقها وتوثيقها في القسم الثاني. في القسم الثاني، وثّق خالد وجمع نماذج من كتابات المرّاق. عرض في الفصل الثاني «ملامح من الفكر الفلسفي عند العرب»، وتضمّن بحث المراق حول إلهيات الفارابي كامتداد مميز لمسار العلم اﻹلهي في ديانات الشعوب القديمة كالهندوسية (في أسفار اليوبانشد والفيدا)، وملاحِم الإغريق (الإليازة والأوزيسا)، وأفلاطون وأرسطو، وتالياً في الكتب المقدسة السماوية: التوراة والإنجيل، وآخرها القرآن، وما جاء فيها من كلام عن إله مبدع للكون من عدم. وتوقف عند مسألة الصفات اﻹلهية والفرق الثلاث التي تولدت عنها في علم الكلام اﻹسلامي (المشبهة أو المجسمة، المغالون في التأويل أو المعطلة أو النافية للصفات جملة وتفصيلاً، والمعتدلون في التأويل أو الصّفاتية) وتشكّل الاتجاهات المهمة في الفكر الديني اﻹسلامي (الاتجاه النقلي المتمسك بظاهر الآيات، والاتجاه العقلي – المعتزلة- والاتجاه الوسطي – اﻷشعرية)، وتوقف عند نظرية أبو الهزيل العلاف الذرية، أو الجوهر الفرد، وقارنها بالمذهب الذري اليوناني عند ديمقريطس وأبيقورس، وكشف عن الفوارق بينها. وكونت هذه المقدمة الدقيقية المدخل لتحديد موقف الفارابي منها جميعها ونظريته الجديدة المميزة في العلم الإلهي. تطرق إلى مفهوم الألوهية عند الفارابي وفعل الخلق اﻹلهي للعالم، ونظرية الفيض، مع اﻹشارة الدقيقة ﻹفادة الفارابي من تعاليم المتكلمين المسلمين وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين. وقدّم محاولة ابن رشد للتوفيق بين الحكمة الفلسفية والشريعة الدينية في كتابيه: «فصل المقال»، و«تهافت الفلاسفة». وبسط في المقالة الثالثة منزلة العقل في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية. وحرص فيها جميعها على رصد التأسيسات والمنطلقات الفكرية، ومرامي أبعادها الصالحة للبناء عليها على غرار ما حصل في الفكر الغربي.
وتجلت شخصية المرّاق المجددة في خوضه المباشر في قضايا ومشكلات فلسفية معاصرة، في تبيانه للنظريات العقلية حول الفروق الفردية، بين القديم والحديث، ومستعيناً بما قدمه علم النفس الحديث، وجهود الباحثين ونظرياتهم في هذا المجال. فعرض أولاً نظريتي أفلاطون وأرسطو ونظرية ثالثة تقول بوجود عدد غير محدود من الملكات أو القدرات العقلية وأن كل عمل عقلي له قدرته المستقلة الخاصة، وسجل ملاحظاته عليها جميعها. ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة علماء النفس المحدثين أمثال فرنسيس جولتون في دراسته حول الوراثة وتحسين النسل في بريطانيا، وحركة العناية بضعاف العقول في فرنسا عند رائدها اينارد وتلميذه سيجون. وسلط الضوء على خصائص النمو لدى الطفل بين سن الثامنة والعاشرة. وكشف في مقالة مسهبة عن دور الحرية الأساسي في ميدان التربية، وركز فيها على الطابع الاجتماعي المدني للحرية وتجلياتها في السلوك الفردي والأسري والسياسي.
لقِّب بفارس مرحلة تعريب الفلسفة في تونس


قدم خالد في الفصل الرابع مجموعة من مقالات المرّاق حول قضايا حضارية مثل: الجانب العلمي في الفكر الإسلامي ومنزلته في بناء الأمة الإسلامية، والفكر الإسلامي في عيون المستشرقين، ودور الفلسفة وفعلها في عصر العلم، كرافعة للإنسان أمام تحديات المجهول. وناقش في المقال الأخير رأي باشلار وزكي نجيب محمود في التمييز بين المعرفة والفكر الساذج العفوي المستمد من الثقافة الشعبية وبين المعرفة أو الفكر العلمي وطبيعته الكليّة المعتمدة على التعميم والدقة والوضوح والتي تعبر عن مفاهيمها تعبيراً كمياً خالياً من كل التباس أو اختلاف في التأويل. ويخوض، في هذا المقام، في أزمة الفلسفة، بمفهومها القديم، كبحث في الوجود، أمام النتائج الباهرة التي حققتها العلوم، وتنكّر أصحاب الاختصاصات الدقيقة لها، والمطالبة بتعويضها بالمناهج العلمية من قبل الوضعيين. ويناقش مقولة غوبلو بأنّ لا معرفة فلسفية فوق المعرفة العلمية لأن العلوم تتناول كل الموجودات وتحشر الفلسفة في دائرة الأمور المختلف فيها التي إذا ما صارت يقينية، دخلت في حظيرة العلم. وهذا هو رأي برتراند رسل أيضاً. ويدعو المرّاق إلى الروية في إطلاق هذا الحكم المجحف في حق الفلسفة وحقيقتها، لأن هناك مجالات متعددة ومتنوعة يمكن العمل في إطارها، وأهمها التخطيط للمستقبل عن علم ودراية.
وعرض المؤلّف، في الفصل الخامس والأخير آراء المرّاق في مسائل اجتماعية وثقافية كاﻷصالة ومشاغل الشباب، والملكية، والوحدة القومية والنظرة إلى اﻹنسان والمجتمع، وموقف اﻹسلام من التنظيم اﻷسري والعائلي. وقد نجح خالد البحري في إبراز القيمة الفكرية للمرّاق المؤمن بجدوى الفلسفة كعنصر فاعل في التأسيس والبعث لنهضة فكرية إنسانية ممكنة.