1. مدينة الأفئدةالحياة في هذه المدينة ليست مُتاحة كثيراً، طرقها طويلة وملتوية، يُمكنك الوصول إلى أيّ مكان تريده، هذا ما سيبدو لك بدايةً، لكنّ معرفة عكس ذلك تحتاجُ إلى حالة خاصّة تُحاصرك فيها ثوانيها، أو لعلّه ذلك الوقت الضيّق الذي تُريد فيه أن تصل بسرعة إلى مكان ما، فعلى غير المدن الأخرى، في هذه المدينة غاب الاهتمام بعبُور الطّرق المُختصرة، طريق تجعلك تصلُ في الموعد، إذ لا توجد بها محاولة باءت بالنّجاح، فإن تأخرّت في البيت أو المقهى أو العمل عن موعدٍ ما، فإنّك قد تأخرّت فعلاً، لن تخرج مسرعاً إلا من مكانك إلى الشّارع، بعدها ستصلُ في الوقت الذي تحدّده المدينة، كأنّها تقُود سكّانها إلى مكان ما يتفادونه، فالأحياء مُغلقة في نهايتها، والكلّ يدخل ويخرج من نفس الشارع الأفعواني المُحيط بعمرانها، الشّارع الوحيد الذي يُمكنك استخدامه لاختصار تلك المسافات غير متاح، فالنّاس حينما يعبرونه يودّعون بعضهم، كأنّه على هيئة بالوعة في وسط المدينة، وكنتُ كلّما مررت بمحاذاة مدخله أقفُ وكأننّي أريد أن أجرّب تلك المُخاطرة، عشتُ سنوات كثيرةٍ أنتظر وضعاً مستعجلاً يجعلني لا أبالي بأن أحيا أو أموت، وتكون فيه المُخاطرة هي كلّ ما أريد، ربّما الحبّ، قلت بيني وبين نفسي، هو الشّيء الذي يستحقّ أن نخرُج منه قتلى، لكنّني أصاب بنوبة ضحكٍ بعدها، هل يمكن للحبّ أن يحمل كلّ هذه الجرأة على ارتكاب الجرائم، البارحة مررنا أنا وهو من شارع المدينة الخطير هذا، يُقال إنّه قلّما يخرج أحد منه من دون رصاصة في الصّدر، شارع الحبّ الذي لا تعود منه، فالمدينة كلّها مغلقة مثل حقيبة مكتظّة خنقتها كثرة الثياب، وكان عليّ الوصول إلى المستشفى في الموعد، هناك مريضُ يحتاج إلى عملية قلب مفتوح وأنا عالقة داخل حياة أجرة أودّ اللحاق به قبل أن تتدهور حالته وأخسر نفسي في مدينة تبدأ الآن بالتضييق عليّ، كأنّ موعدي لعبور ذلك الزقاق قد حان، هو في الطّرف الآخر من الشارع، نزل من سيارته أيضاً، سلك الطريق نفسها مضطراً حتّى يصل إلى زبونٍ وعده بأن يحصل من خلاله على فرحة قلبه في الموعد، كان مفلساً للغاية وكانت تلك فرصته الأخيرة ليجد حياة تملؤها المشاعر الخلّابة، كنت خائفة كثيراً حينما رأيتهُ قادماً مسرعاً نحوي من هناك، هو أيضاً ارتبك حينما سمع صوت كعبي العالي مسرعاً على البلاط، لم نقصد إيذاء بعضنا في هذا المكان المعتِم للغاية، كنّا نريدُ العبور فحسب من دون أن نُلفت انتباه بعضنا، لكنّ الزّقاق كان ضيّقاً، ولو مررنا جنباً إلى جنبٍ للامس وجهانا وصدرانا بعضهما، ولامست أيادينا بعضها، كانت قلوبنا تلاحقُ بعضها أيضاً، والآن، أخرجت مسدساتها وتبادلت إطلاق النّار، لم نرغب في حُدوث هذه الكارثة، لكن هكذا يبدأ الحبّ في مدينة الأفئدة بإطلاق النّار نحو صدرنا ونحن نُحاول اللحاق بشيء نكاد نخسره..

بايَةْ الجزائريَّة ـــ «الجميلةُ في بيتها الجميل» (زيت على قماش، 1947).


2. العيش كمنديل
وُلدت بعد أن فقد أهلي طفلهم ذا الأربعة أشهر، جئتُ بعد جنازة مريرة، وككلّ الأسر التي تُحاول التّخلص من حزن موت أطفالها بإنجاب طفل آخر تضع فيه كلّ حبها أو تهزم فيه حزنها الذي لا يُستطاع بلعه بالأعياد أو باختراع المناسبات السّعيدة العابرة، قرروا تعويضه ببديل يفرغون فيه عواطفهُم الكبيرة، حاصرُوني بحبّ لا يعنيني منذُ اللّيلة الأولى التي ناما فيها سويّة، ثم اعتنيا بي وهما ينقلان إليّ الأطعمة الجيدة عن طريق الحبل السريّ في الرّحم، راقباني وهو ينتفخ مجدداً معلناً قدومه في جسدي البديل، ولدتُ كمنديل أو كطريقةٍ لاستعادة ما أُخِذَ منهما بالقوّة، تقول والدتي إنّها بكت من دون توقّف وإن حليبها الغزير محرقٌ وإنّ والدي انهار على قدميه تحت كتلة صغيرة وخارت من الحزن قواه، بكى مثل ذئبٍ جريح حتّى أحضروا له من قبر أخي حفنة تراب ومسحوا بها على وجهه، وفوق ظهره، لا أعلم إن كان ذلك مفيداً له لكنّه هدأ وبدأ يستقيم وينهض من عوائه على أربع قوائم، أختي الكبرى كانت طفلة بريئة، بكت هي الأخرى على طريقتها الخاصّة، إذ كانت تتسحّب من البيت ثمّ تنطلق كرصاصة نحو بيت عمّي، بكت أختي أمام بابهم كثيراً وطالبتهم برؤية أخيها، بكت لأنّها ظلت تظنّ أن الطّفل الصغير في بيتهم هو أخوها الذي أُخِذَ منها بتلك الطريقة، الموت أكبر من أن يُفهم بالنسبة إلى طفلة صغيرة مثلها ومع هذا كسروا عينها وأخبروها أنَّ أخاها مات، ولدتُ بعد أن فقد أهلي طفلهم ذا الأربعة أشهر، جئت بعد أن استدارت بطن أمّي جيّداً وهي تفكّر في عودة ابنها بهذه الطّريقة، أغمضَ عينيه فجأة وبعدها بسنة فتحهما في عينيّ من جديد، واليوم أحاول الاعتياد على العيش داخل أعينهم كلافتة تشير إلى مكانه وهي نفسها منسيّة!

3. اختلاق
كان خبر وفاتها مثل اصطدام كوكبين، وعليه اختلّ توازن العالم، كيف للحياة أن تعُود مجدداً بعد ذلك الانفجار؟ لم أحتمل فكرة أن يصغُر حزني، فقد سمعت جدّتي تردّد بينها وبين جارتها التي جاءت لتعزيها قائلة: — كلّ شيء يبدأ صغيراً ويكبُر، إلا الحزن يبدأ كبيراً ثم يصغُر إلى أن يتلاشى، قاومته بأن توقّفت عن مُمارسة كلّ ما يلهيني عنه، مضت 17 سنة على ذلك الحزن لكنّه بقي نديّاً تفُوح منه دائماً رائحة التّعاسة، بيتٌ ميت، سُكانه أشباح، وكان جلب ثيابها إلى الغُرفة كافٍ لكرهي للألوان، ارتداؤها وقت النّوم ساعدني على السّهر الطويل، فقد زاد من صحوي وبكائي المخنُوق تحت الشراشف. — ستموت من الحزن، قالت زوجة عمّي لوالدي، إن لم تخرج من هذه الحالة، عمّ حزن مضاعف في البيت، ترك والدي حزنه على زوجته منذ زمن بعيد لكنّني لم ألاحظه، كنت أراه حزيناً – مثلي - على المرأة ذاتها، لكن حزنه تفاقم عليّ أيضاً، لم يعد ينام هو الآخر، أسمعُه يتجوّل أمام باب غُرفتي، يقترب إلى أن يدخل ظلّه الغرفة بينما ينتظر هو بجسده النّحيل خارجاً، يُطيل بقاءه على هذه الحال لدرجة ينتابني فيها رعب شديد. — سيموت أبي حزناً عليّ أيضاً، قلت لنفسي، وحتى لا يحدث هذا كان عليّ أن أجد طريقة للتّجاوز كما يفعل الآخرون حينما يدفنون أحبَّتهم، فكَّرت في اختلاق أمّ، إنها أمّي طبعاً، لكنّها لم تعد تأتي إلى البيت منذ 17 سنة، فحينما يموتُ أحدهم في العالم تحبل امرأة ما في نفس هذا العالم؛ هكذا أتخيّل معنى الاختفاء، أن ندخل أحدهم داخل حُفرة، فينمو في مكان آخر مثل شجرة معمّرة، أتخيّل أمي وقد بلغت الآن 17 سنة في عائلة أخرى، أتخيّلها لا زالت تحبّ الشعر وأنّها مقبلة على شهادة البكالوريا، أنّها عاشقة صلبة ورغم ذلك تُرسل ما أكتبه عن الحبّ إلى حبيبها كلّ ليلة، أمّي بشعرها الأشقر وعيونها الواسعة تجلسُ يومياً أمام جهازها تتصفّح صفحتي الفايسبوكية وحينما لا أظهر تترك رسالة في بريدي: — هل تسمحين لي بمناداتك أمّي؟

4. وقت مؤقّت
انفصلنا مؤقتاً، قُلنا، حتى نعُود إلى بعضنا أقوى،
أن نحرم أنفسنا منّا لنستعيد حبَّنا بالكامل،
ها قد مرّت عشر سنوات،
أنجبتُ فيها طفلين وأصبح لديك ابنة بعمر التاسعة،
وفي انتظار عودتنا إلى بعضنا،
عشنا حياتنا، ونسينا أنّها مجرَّد وقت مؤقّت..

* جيجل/ الجزائر