1- طريقانتهت الطريق
ولا زالت قدماي تسيران
نحو
قرية هجرتها الحياة
لأفاجأ أنّ المطر لم يعد يُقبِل
قرميد منازلها
نحو
قطيع من أغنام تتبادل وراعيها
كلمات أغنية هادرة:
«امض أيها الضال
إلى الجلبة
هناك حيث ستستعيد ذاتك»

كريستيان جكِيلْ ـــ «قارب منعزِلُ» (زيت على قماش، 2019).


نحو
ثنائي غريب
طائر بلشون يعيش التوحد
ويراقب شجرة سرو
تلتحف ظلها.

نحو
نافذة فقدت حنجرتها
تلوح كشيخ مسن بخشبها المشقق
حتى لكأنها تُلقي على الواقفين خلفها موعظة
بعد أن استنزفت أطياف الغائبين
دموعهم.
نحو عجوز مكابرة
تلحف في جمع الركام
حجارة
حطباً
وروث بهائم

..أيام استحالت إلى بياض باهت
لفرط ما تكررت.

نحو
بقايا أثاث عتيق ومهترئ
صور باهتة منسية على حائط متعب
مذياع تداعى صندوقه كأنتيكا
صندوق خشبي أمحت زركشته
رسائل حب جف ورقها المعطر
وأرجل الرتيلاء تعكف على نسيان
يليق بثباتها.

نحو
موت لا هوية له
لجندب.. لكلب شارد.. أو لنجم سينمائي أنيق
رباه.. لكأنها كانت تدنو مني
لتجهز كواليس موتي الأخير

وأخيراً آن أن يتوقفا عن السير
يا إلهي.. لقد كانتا طيلة الوقت.
تسيران بي نحوي !

2- جندي
عاد الجندي من الحرب
عاد إلى أهله بساق واحدة
يحملها فوق رأسه
كناجٍ وحيد بين رفاقه.

هناك في قريته
وجد والده قد أسلم الروح
وحبيبته قد
رحلت مع أول خاطب طرق بابها.

يا الله.. بلدته الجميلة كانت قد بدلت جلدها
وحيهم قد حُورَ في ملامحه التي كانت
قد غيبها في الذاكرة
حتى البنايات أنكرته
فيما الطُرق
لم تعد تلك الطُرق الأولى
انفجر بطنها وتشعبت عنها طُرقات
لقد فاتته حياة كاملة.
الجندي فكّر
ماذا لو تُوفي ووُلِدَ من جديد!
وهكذا لن يعود ذاك الغريب
فقطع لسانه
وألحق به الأذنين
ثم فقأ عينيه
وخاط فمه
وأطلق الغُراب الذي كان قد
استوطن رأسه
وهكذا دفن حواسه القديمة
أراد أن يمحي ذاكرته القديمة
بأخرى جديدة تليق بقريته
لكن البحار الذي أنشأ يجذف
داخل قلبه خذله
راح يستعين بخبرته الخبيئة
فاتكأ على اليد ذاتها
الأنف والقدم والعينين

الجندي المسكين
لو أنه - فقط - فكر في الإجهاز على البحار أولاً..

3- أحجية
الغراب الذي ظل
ينقر بداخلي دون كلل
وصل إلى كهف قصيّ
لم أكن أعلم بوجوده
قبل اليوم

كهف
فاحت منه روائح حارة
لِمسك وكافور
وأخرى لم أتبين طبيعتها

وملأت يد الريح الخفية
أفواه جدرانه
بكثبان غبار
وبيدين حذرتين
وفي سُكون مُلهم
وقف فيه شيخ ناسك
يطوِّق لهب شمعة

عين الغراب كانت ترنو
إلى يد الناسك

حلّق فوق رأسه
ضرب الهواء بجناحيه الكثّة
أطلق ينعق وينعق

في وجل همس الناسك بكلمات
فضم الغراب جناحيه إليه
ثم غاب في الضباب البعيد

4- سرير
ماذا يفعل الغريبان
في سرير واحد؟

عين غريبة
تقابل عيناً أخرى
غريبة عنها

أصابع يد غريبة
تعانق أصابع يد أخرى
غريبة عنها

ثرثرة السرير:

الجواد ضيّع مساره
كان يركض ويركض
نحو اللَّاوجهة

خطواته تُسابق أنفاسه
من أجل شرعية الخضوع.
النجمة منطفئة
بدا الحيوان المنتصر
مهزوماً يتجشأ خضوعه
الرغبة المتكافئة
القبل الثملة
الجسد المحموم لهفة
الأنفاس العطشى
مباركة الحب
كلها يدك بها دَكّاً - بلا رحمة -
في أفواه الملاءات
الوسائد... الجدران

وكعازف كمان حزين
لم يقبض على النوتة الصحيحة
ليكتمل معه اللحن
يأتي الصباح
يستفرغ السرير
في الأفواه ذاتها
ما ابتلعه ليلاً
من اغتصاب.

فتموت الروح
يموت الطفل
تموت الحياة

ودورة القمر التي لن تكتمل أبداً
ما لم تنشد الروح من الحب صفاءه..

5- قلق
شاع في القرية
أنّ طيور اللقلق تقيم
حفلة في الغابة

هنا
حيث الرطوبة
تملأ جلدي
الانطفاء قلقي الوحيد.

فقط لو أنني
أمتلك صوت طائر.
الموت هدية أيضاً
وأخيراً ها أنا ذا أرقد بسلام

عرفته للمرة الأولى
الموت ليس سيئاً.

الحجر يزهر في رأسي.

في متناول يدي
تشرق الشمس.

كإله أبدي أحيا
وأزهر كشقائق النعمان.

لتغني أيتها الحرية أغنية الانتصار.

6- قنديل
إلهي
يا شاعر الكون الأعظم
ها أنا ذا أضع يدي على قلبي
مغمضة العينين.

وشفتاي المتعبة
تترنّم باسمك
تتوسلك

أين أنت من هذا العالم الواسع
شمسك لا تشرق في مدني.

أين أنت من هذا العالم الواسع
كي أحج إليك.

تزهر الندوب نرجساً

في الليل يبتلع الظلام
الطريق.
في النهار يبتلع الضباب
الأبواب والنوافذ.
غير أني لا أودع الأمل.
أغمض عيني
وأصغي لحديث الهواء.
وقع خطاك البعيدة
تطأ أرضي.
تزهر الندوب نرجساً.

(*) قصائد من ديوان بالعنوان نفسه صدر حديثاً للشاعرة الجزائرية دلال بدر، عن «كلاما للنشر والتوزيع»، قالمة، الجزائر