نحن الذين نتحدث عن اللوعة والبرد وقهر الرجال، نسرف في الفرح حين يأتي، لأنه سرعان ما يذوب كليلة حب عابرة ولأن الزمان عندنا كائن ذكوري ينسل الهجران والوداع، فنرميه بالأدعية والنذور. ونزرع حول كرمة عتيقة شجيرة سدر، ليكون شوكها في حلق الدهر، إن تمادى في بطشه؛ ونربط فوقها مزق بعض ملابس موتانا ليخطئ فريسته من الأحياء...

لا ينقطع عندنا غناء صَلِيحَةْ، فحبنا لها خالص مصفى. فأوشامُها لم تمَّحِ من القلب، لأنها بصوتها الذي غطى عصراً كاملاً ليست في حاجة لأن تظهر أنها من الحاشية أو لأن تصنع لها أصلاً حضرياً. فهي في الغناء الأصل، وغيرها الفروع، الصوت الذي قلّم أظافر ذوق المخزن... ذئاب وثعالب ورياح تتناوش، وامرأة تنهشها درب ترابية شاقة، ترتدي ثياباً ريفية موغلة في الكمد، هذه هي البحّة التي تلازم صوت صليحة حين تغني.
وهي التي جعلت الباي الحسيني وحاشيته يطربون لهذه البديعة التي تصنف سيدة ذات شجن تفرقه على مقامات الطرب الذي تحدثه في الروح...
تقول صليحة: «خالي بدلني/ آش عليكم فيه/ هو يغضب وأنا نرضيه..» دخان، حشيش، مخادع، هلوسات وعلاقات طي الكتمان في تونس بين الحربين...
كل الثنايا تؤدي إلينا في ذلك الشمال البعيد حيث مقامات الأولياء والحانات من فرط زهدنا لا تكاد تُرى إلا إن اقترب منها زائر غريب. ولكل مسلك عندنا نصيب من الغربة والستر.

* تونس العاصمة