يمزج نبيل سليمان في روايته الجديدة «تحوّلات الإنسان الذهبي» (خطوط وظلال) الفكاهة بالتراجيديا لرسم خريطة حياة شاسعة تلخّص سيرة ملتبسة، تنطوي على هندسة صارمة في تفكيك أحوال البلاد، متقنّعاً بشخصية حمار تحوّل إلى إنسان، لكن جيناته الحميرية ستستيقظ في مواقف ووقائع كثيرة اختبرها عن كثب، في رحلاته الثقافية. ذلك أنّ «كارم أسعد» راوي معظم هذه الوقائع، فكّر باكراً في استثمار «أبجدية النهيق» في كتابة روايته الأولى، مستنجداً بهوامش وإحالات لا تُحصى تتعلق بالحمار. هكذا تراكمت المراجع فوق مكتبه بما يفوق 130 مرجعاً، مقتفياً خطى لوكيوس أبوليوس صاحب رواية «تحوّلات الجحش الذهبي» وهي أول رواية في تاريخ الإنسانية، كان بطلها يهتم بالسحر، فرغب أن يتحوّل إلى طائر لكنه وجد نفسه حماراً. يجول صاحب «مدارات الشرق» بين الأمكنة، متأبّطاً محاضراته عن تاريخ الحمير، ومدافعاً شرساً عن هذه السلالة، من تركيا إلى الكويت والمغرب، وصولاً إلى بعض المدن السورية مثل دمشق والرقة واللاذقية. وإذا بنا أمام سيرة ذاتية موازية تنطوي على جسارة في الاعترافات الحسية واشتهاءات الجسد، وتوثيق تاريخ الأحزاب المتعاقبة وصراعها على السلطة، فتلوح طفولة حزينة، ووعي لاحق يتّكئ على حوادث تاريخية، وصراعات سياسية، وجنرالات، واحتجاجات، وتظاهرات تغلق القوس على «الزلزال السوري» ومآلات الربيع الموؤود، هذا المصطلح الذي اعتمده نبيل سليمان في متابعاته النقدية لروايات الآخرين التي تتعلق بالمحنة السورية.


على المقلب الآخر، تحضر السرديات الريفية في قرية «نيبالين» كسجادة أولى لوقائع السيرة، قبل أن ترتطم بخرائط أكثر خشونة، فتتوارى صورة «زلفى» أول أنثى عشقها الراوي، لتحلّ مكانها «غنوة» متقمّصةً روح الأولى بأبجدية ثورية، مثلما تتوارى الأساطير الريفية والعتابا والأمثال، نحو حياة أكثر اكتظاظاً وعسفاً، فتنبثق سرديات موازية تتأرجح بين الأخيولة والوثيقة، تبعاً للدروب المتعرّجة التي سلكها الحمار في خيباته وانتصاراته الحياتية الخاطفة. لا زمن خطياً هنا، إنما ما تقترحه نزوات الذاكرة ذهاباً وإياباً، من حمار عزيز نيسن في قصة «نحن معشر الحمير»، إلى حمار القاضي التنوخي في كتابه «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة»، ليأتي تفسير «النشوار» وهو «ما تبقيه الدابة من العلف»، تلخيصاً لكل الكتابات الحميرية الأخرى التي يوردها لاحقاً كأدلة دامغة تعزّز صحة خياره للفكرة التي انتهت إلى هجاء طويل لتبن الكتابة والصراعات السياسية والعبودية والاستبداد في معلف التاريخ. لكن محتويات هذا الوعاء الضخم ستندغم تدريجاً في النص الأصلي، إذ تختلط سرديات الراوي بسرديات الآخرين، من دون أقواس، كما لو أنها نصّ واحد، نظراً إلى تشابك المصائر، مكتفياً بهامش يشير إلى عملية التناص. ثم علينا أن ننتبه إلى حضور ابن المقفع وكتابه «كليلة ودمنة» لجهة النطق بألسنة الحيوانات بقصد تعميم العبرة، وبوصفه مرجعاً أصيلاً في هذا السياق. سيقتنص الراوي عشرات الأمثلة من القصص والحكايات التي ورد الحمار في نسيجها، سواء في الكتب التراثية أو الروايات المعاصرة، فنقع على تواقيع الجاحظ، وإميل حبيبي، وتوفيق الحكيم، وسرفانتس، وخوان رامون خيمينث، فريدريش دورنمات، وآخرين، بما يفيض عن حاجة المتلقّي.
نصّ متشعب، ينهض على الهدم والبناء، الإقامة والعبور، الفكاهة والكوميديا السوداء، التخييل وتدوين المذكرات الشخصية، والمرويات والمواقف. يهدم كارم أسعد بيت الأب المتهالك ليبني مكانه بيتاً حديثاً وأنيقاً، لكن هذا البيت سيتعرّض لاعتداء بعض الدهماء احتجاجاً على مواقف صاحبه من الحراك السوري. عملية الهدم والبناء إذاً، مرآة عاكسة لمجرى السرد وطبقات الحكي والتذكّر والترحال، وشرح الهوامش في ربط متين بين الوقائع المحتدمة من فرات مدينة الرقة إلى وحشة «نيبالين» وكوابيسها، ومغامرات معلم مدرسة في أريافٍ منسية، وتواريخ شخصية عن عتبة الكتابة ومطبخها، بالتوازي مع الاضطرابات التي شهدتها البلاد في حقبة الثمانينيات وما بعدها، من موقع الفرجة أولاً، وهتك روح القطيع ثانياً، و«يا حمار وطي الصوت»، و«ضب لسانك» ثالثاً. عند هذا المنعطف، سيرفع كارم أسعد الصوت عالياً، ولن يضبّ لسانه، تبعاً لاشتعال الذاكرة بالكوابيس، لا ضرورات عمل المخيّلة، بما يشبه الإدلاء علنياً بشهادة شخصية ورغبة مؤجلة في تدوين ما كان يقع قبلاً، في باب التقية والمراوغات السردية التي أثقلت الرواية السورية طويلاً.
نصّ متشعّب ينهض على الهدم والبناء، الفكاهة والكوميديا السوداء


على المقلب الآخر، تحضر تولاي، وزلفى، وأريام، وظبية، في قصص حميمية، تتأرجح بين الحب والاشتهاء، استكمالاً للنبرة العالية في الاعترافات الشخصية، وحيناً آخر تتسم بالحميرية التي لا تأبه لما سواها. وسوف يتبعها بمرآة أخرى، هي ثنائية الإجهاض وموت الزعيم أو هزيمته، والإحالة على الثأر والخوف المقيم في الأضلاع، ومدوّنات العزاء المشبعة بالرياء. كتاب الحمار هو مشروع العمر بالنسبة إلى الراوي. كتاب هجين حسب قوله «لا أعرف بالضبط، هل سيكون كتاباً؟ رواية؟ سردية؟». بمثل هذه الحيرة، يعرّي صاحب «ليل العالم» سيرته، ومفهومه للرواية بوصفها مزيجاً من اللغة واللهجات والأمثال والأساطير. لكنّ حماره وفقاً للأمثال غارق في الوحل لفرط مكابداته في العيش وتنوّع تجاربه وخبراته الحياتية والمعرفية، وبما يفيد متطلبات الميتا سرد، وهذيان الذاكرة وهي تحتضن في أربع حركات سردية تحوّلات الشخصية «على شفى زلزال أو زمن تولاي»، و«أطلال لكنها تنبض»، و«على شفى الزلزال»، و«زمن الزلزال». سنكتشف في الحركة الثالثة طول المسافة بين من كان يتلمّس أبجديات الكتابة أثناء إقامته في مدينة الرقة، وضخامة مكتبته في بيته الذي بناه في قريته، وقد ملأ الجدران برفوف الكتب واللوحات التي تصوّر أحوال الحمار، وكأن كارم «يبحث عن نفسه في الصور»، وفي مرآة أخرى «دون كيخوته» سحرته كتب الفروسية «الحميرية»، ولاحقاً «تحوّلات الجحش الذهبي» الذي ألهمه بتعقّب كل ما يتعلّق بطبائع الحمار: «ها أنا حمار بين يديك. لا تغترّي بقميصي البشري» يقول. في الرسائل التي يتلقاها بالبريد الإلكتروني، يواصل كارم أسعد ما انقطع من سير الأصدقاء، فها هي تولين تبزغ ثانية من مدنٍ متعددة في رسائل شوق محمومة، ليلتقيا ثانية في المغرب، كما يعرّج على مراسلات تتعلّق بمهرجانات تخص سيرة الحمار بعدما أصبح كارم أسعد محاضراً مرموقاً في هذا الشأن. نحن إذاً، إزاء حشد من المرويات المتجاورة في مرافعة طويلة عن الحمار من جهة، ونبرة سيرية أودعها صاحب «تاريخ العيون المطفأة» كل ما لم يروه في المتخيّل السردي قبلاً، من جهةٍ ثانية. على الأرجح، أفرغ نبيل سليمان جوفه من كل أسباب «المغص الرقابي» في رحلته التخييلية الطويلة التي تربو على عشرين رواية.