لعل أكثر اسم تردّد في التقارير الإخبارية عن الانتخابات الإيطالية الأخيرة هو الزعيم الفاشيستي بينيتو أندريا موسوليني (1883 – 1945)، إلى جانب «النجمة» جورجيا ميلوني زعيمة حزب «إخوة إيطاليا»، المرشحة الآن لتولي منصب رئيس الوزراء هناك. استعادة مستحقة ربّما بالنظر إلى التموضع السياسي لـ «إخوة إيطاليا»، تجاه أقصى اليمين، وجذور لا يخفونها في إطار الحركة الفاشستية الجديدة التي حملت تراث «الدوتشي» وأبقته حيّاً بعد تغييبه الدراماتيكي على أيدي مقاومين شيوعيين عشيّة انطفاء الحرب العالميّة الثانية. والسؤال المطروح دائماً: هل إيطاليا تُعيد إنتاج عشرينيات القرن الماضي التي شهدت انكسار عالمها القديم من دون أن تقوى المملكة الغضّة وقتها على إنتاج جديدها؟ فكان أن انطلقت في الظلام الفاصل بين الموت والولادة المتعثرة وحوش وتنانين القمصان السود الفاشيست، على حد تعبير أنطونيو غرامشي، المفكر الإيطالي الشيوعيّ الذي عاش تلك المرحلة وكان شاهداً عليها.

السياسيّون الغربيّون العارفون بأمور إيطاليا، يقولون بأنه لو أعاد التاريخ نفسه، فلن يكون سوى نسخة مهزلة مما مضى. فلا ميلوني هي موسوليني، ولا «الأخوة» هم القمصان السود، والنظام الليبرالي في الجمهوريّة المعاصرة صلب لا يُقارن بهزاله في عصر الملكيّة الآفلة. خبراء التاريخ منحازون إلى وجهة نظر ــ سبق إليها غرامشي ــ بأن الفاشيستيّة حركة اجتماعيّة تعبّر عن أشواق البرجوازيّة الرّثة في المجتمع الإيطاليّ، وأن حال التردي الاقتصادي والاجتماعيّ التي انتهت إليها الجمهوريّة على أيدي الحكومات الليبرالية المتعاقبة منذ التأسيس (1945) مقرونة بغياب بديل يساريّ يعتد به، تؤدي بالضرورة إلى مناخ من التخلخل الاجتماعي يمكن توظيفه لتولي متطرفين شعبويين السّلطة يحملون أجندات إقصائيّة ورجعيّة وعنصريّة.
هذا الجدل المحموم المتجدّد بسطوع نجم ميلوني، كان توقيتاً مثالياً للروائي الإيطالي أنطونيو سكوراتي لتزامنه مع صدور الترجمة الإنكليزية للجزء الأوّل من ثلاثيته M، أي الحرف الأوّل من اسم موسوليني. بعد النجاح الهائل للنسخة الإيطاليّة (2019) بالإفادة من أجواء بدايات صعود اليمين الفاشستي، ها هي النسخة الإنكليزيّة تحلّق على موجة الاهتمام الغربي لحظة وصول ذلك اليمين إلى السلطة، ناهيك بإتمام الاتفاق مع شبكة «سكاي» على تحويل الرواية إلى عمل سينمائي وتوسيع وصولها إلى جمهور لا يقرأ.
ثلاثية سكوراتي طريقة غير عادية للنظر في تاريخ الفاشيستية من خلال الاستماع لصوت موسوليني نفسه، كما أصوات بعض معاصريه، في إطار عمل خياليّ. لكنّ نقاداً اعتبروا العمل محاولة باتجاه إعادة تأهيل الدوتشي للقرن الحادي والعشرين، وتقديمه للأجيال على نحو يختلف عن صورة الوحش التي التصقت به. ويبدو أن الرواية لقيت بالفعل إقبالاً مضاعفاً من قبل الشبان تحديداً، وشكر كثيرون منهم المؤلف في رسائل بعثوها لأنه «جعل من تاريخ موسوليني أمراً مثيراً للاهتمام مقارنة بالطريقة الجافة التي يقدّم بها في المناهج الإيطاليّة». لكن سكوراتي يحاجج بأنه شخصيّاً معاد للأفكار الفاشيستيّة، وأن العمل في عمقه تفكيك لتلك الصورة الصنميّة عن الزعيم الإيطالي التي بنتها عقود من البروباغاندا المكثّفة حتى توارى موسوليني/ الإنسان وراء موسوليني/ الفكرة، ولم يعد بالإمكان قراءة ملامح شخصيته الحقيقيّة. والواقع أنه رغم جرائمه التي لا يعد ضحاياها في ليبيا وأثيوبيا واليونان وحتى في بلاده نفسها، ظلّ موسوليني عند كثير من الإيطاليين من دون إدانة يستحقها، ولم يجرؤ من أتى بعده من حكام إيطاليا على إجراء محاكمة عادلة له أو لعصره. لذلك كان منطقيّاً أن تجد ثلاثية سكوراتي كثيراً من الآذان الصاغية اليوم، وأن يصوّت نصف الإيطاليين لمصلحة سياسيين خرجوا من عباءته.