في الصباح رنّ الهاتف، رفعت ميم هاء السماعة فجاء الصوت مبحوحاً دون مقدمات: «أنا أصبت». كان ذلك صوت مارتان. لقد بقي يترصد الهدف وحين أقبل، أطلق عليه رصاصات قاتلة هو ومرافقه بعد أن صوّب هذا الأخير نحوه وأصابه في يده. هرب على درّاجته النارية وقد مزّق الطلق سبّابته. شقّ طريقه نحو المدينة العتيقة في لمح البصر، كان يقود بيد واحدة مخفياً الأخرى تحت معطفه، يكاد يُغمى عليه من شدّة الألم حتى بلغ ملجأه، كانت غرفة صغيرة فوق سطح إحدى البنايات داخل المتاهة الكبيرة. ارتمى على سريره وبدأ يتلوى.
ربط ما بقي من إصبعه بقطعة قماش عضّ على طرفها واكتفى بالأنين حتى غلبه النعاس.
***

دخلت ميم هاء دون إنذار فجعلته ينتفض في مكانه. رمت إليه كيساً قائلة: «هناك حقنة ومورفين وقطن وضمّادات وعقاقير ستخفّف الحرارة».
- لم ينته عملنا بعد.
- سأتولى الأمر.
- يجب أن نخيط الجرح. أردف وهو يحضّر الحقنة.
- ما رأيك أن آخذك إلى المستشفى؟ سألته باستهزاء وقد قطبت حاجبيها ثمّ واصلت: «ألا تدري خطورة ما نحن فيه؟ قد يتخلّصون منّا قبل أن تجدنا الشرطة».
- لا تخافي لا أحد يعرف من نكون ولا أين نحن.
اقتربت منه وتناولت عنه الإبرة. بدأت تمرّرها في لحمه الممزّق بيدين مرتعشتين وكان يرتعد من شدة الألم حتى أغمي عليه.
لم يكن الأمر يقتصر على خياطة الإصبع بل كان يجب ترميمه، فلم تجد الفتاة من بدّ إلا الاكتفاء بوضع الشّاش وربطه بإحكام.
■ ■ ■

الصبح لا ينبئ بانفراج هذا الليل بعد، وقف لطيف ب في الشرفة يحتسي قهوته مدخناً سيجارة. ليس من عادته الاستيقاظ في مثل هذه الساعة لولا أنّ ميم هاء لم توقظه عند خروجها.
ابتسم في لحظة من لحظات تأمّلاته الكثيرة، لقد تذكرها حين خرجت له البارحة من غرفة الحمّام بكامل مفاتنها يلفّها البخار. كانت تغطي جسدها النَّظِر بمنشفة قصيرة كشفت عن أردافها وشق نهديها وقد أسدلت شعرها المبتل على كتفيها، تقدّمت إليه وقد عبق بالمكان رائحة عطر أخّاذ سرعان ما جعلته يستسلم للنوم في أحضانها. كانت تظهر له حين يتعتعه السكر فيضع رأسه عندها وينام. أيقظته عدّة مرات ليلة البارحة وهي بصدد الجلوس على آلة الكتابة تطرق الأحرف طرقاً، لكنّ الثمالة حالت دون نهوضه لاستخبار ما يحدث حتى زاد الضجيج مع رنين الهاتف، رآها بعينين نصف مفتوحتين ترفع السماعة ثمّ تلملم ملابسها، ترتديها سريعاً وتخرج مغلقة الباب بضربة عنيفة جعلته ينتفض من مضجعه.

Louis Lm-art ــــ «ساحة الجريمة» (أكريليك على قماش، 2018)

كان الانتظار مُضْنِياً وقد صار الصمت المخيّم محفّزاً للأرق، فلم يجد حلّاً غير المكوث في هذا البرد الشتوي مشاهداً المطر حتى حلول السّاعة المناسبة.
الآن صار صوت المحرّك يُسمع في الأرجاء، يقترب سريعاً، ويشتدّ وقعه في قلبه وأذنيه. كذلك كان مارتان وهو يتقدّم وقد كاد يتجمّد تحت سترته الجلدية. توقفت الدراجة قرب الحيّ السكني. نزل وثبّت الخوذة خلف المقعد، عدّل اللّثام على وجهه وتقدّم بثبات. لا حارس في الباب، توجّه إلى إحدى السيارات المركونة مرّر يده فوق العجلة الخلفيّة اليسرى، أخرج مسدّساً ووقف هناك ينتظر.
تسمّر لطيف ب في مكانه وهو يشاهد مارتان، لا يقوى على الحركة. رغم هبوب الهواء البارد كان يحسّ بالعرق يسيل على طول ظهره فيتجمّد عموده الفقري. ها هو ش.ب ينزل درج البناية ويرافقه شخص آخر، في الجهة الأخرى مارتان يلقّم السلاح ويضعه خلف ظهره. يصيح لطيف ب، لا يخرج منه صوت، عجباً! يحاول أن يشير إلى مارتان بإيقاف العملية، لكن الأخير مركّز في الهدف. ليس ذلك ما خطّط له، لم يُكتب النصّ بتلك الطريقة. عاد إلى مكتبه ليتفقّد الأوراق ويبحث عن هذا المشهد، لا يجده، كان من المعلوم أنّ مارتان سيسلّم ش.ب طرداً مسموماً ليموت بعد أيّام فلا يُرتاب في أمره. فجأة جاء صوت الطلقات متسارعاً يخترق السّمع والأفئدة. لطيف ب بالكاد يستطيع حبس البول في مثانته. يفتح النافذة تيارُ هواء قوي وتتلاشى الأوراق في الجو ولا يلحق لطيف ب إلا على ورقة واحدة كتب عليها عبارة واحدة «انتهت». ينظر من علو، ليرى حبر أقلامه يمتزج في برك الماء، يتلاشى معه المخطّط ومارتان، وهو يهرب بدراجته. ها هي ميم هاء، مسرعة نحو سيارة، تشغل المحرك وتختفي. ينظر لطيف ب في الأرجاء ويصرخ: «أوقفوا التصوير». لكن لا صوت يخرج من جوفه. الأمور خرجت عن السيطرة وعن المكان والزمان. بالكاد يملك لطيف ب القدرة على تشغيل عقله. هل صارت الكلمات واقعاً والموت حقيقة؟
الآن صياح وعويل وتجمعات، رنين صفارات سيارات الإسعاف والأمن. لطيف ب على الأريكة يشعل سيجارة بسابقتها ويعجز عن تذكّر الأحداث وينسى مكان مارتان. يلبس معطفه ويقرّر الخروج للبحث. يسلك طريقاً ثانوية، يمشي ملتصقاً بالحائط كأنّ نظرات المارة، وحدها، مُدينة له. الهتافات في الأرجاء والخفقان في قلبه، الآن تسعفه الذاكرة، لم ينته عمل مارتان بعد، الهدف الثاني بين التجمّعات. ينحرف إلى الشارع الرئيسي، هذه أعلام وشعارات وخطباء يصرخون. يدخل في الزحام ويرفع يديه وينادي بأعلى صوته: «أرجوكم غادروا، قد يطلقون النار في أي لحظة، لم ينتهوا بعد من مهمتهم إنّه قادم إلى هنا». لا أحد يلتفت إليه، هو أيضاً لا يسمع ما يقول. تظهر ميم هاء داخل الحشد، تتقدّم إليه بلا همس وتقف وراءه بينما هو يقبع هناك محتاراً، يحاول أن يفهم ما يدور من حوله. تُخرج المسدّس وتمرّره في جيبه الواسع دون أن يشعر وتنسحب.
حين أيقن لطيف ب أنّ الأمر صار يتجاوز قدرته على إنقاذ المشهد، ولّى راجعاً من حيث أتى.
في باب الحي السكني، كان يقف رجال الأمن مدجّجين بالسلاح يتفقدّون بطاقات التعريف، يوقفون العربات ويسألون كل عابر سبيل عن أدق تفاصيل حياته. لم يكن لطيف.ب يعلم أنّ المكان سيتحوّل إلى نقطة تفتيش، فيقرّر التواري عن الأنظار. لا يكاد يخطوا بضع خطوات إلى الوراء حتى يتجمّد في مكانه لهذا الصوت: «هاي، أنت، تعال هنا». يحس لطيف ب بقدميه أثقل من كتلتي حديد، يستدير فيرى رجل الأمن يناديه فيسأل: «أنا؟»
- أجل أنت تعال هنا.
- لم أفعل شيئاً، لم أفعل شيئاً، يردّدها وهو يتقدّم نحوه.
- من قال إنك فعلت؟
لم يصدّق ما يراه أمامه، كان ينظر إليه ويمحّص النظر وجبينه يتصبّب عرقاً، هذا مارتان كما رسم ملامحه ولكن بزي الأمن. من أين خرج هذا الفصل الآن؟ ليس هذا ما كتب، سيناريو من هذا؟ يحتار لطيف ب، يضيف الشرطي:
- ناولني بطاقة التعريف.
- مارتان؟ يقولها وهو يمدّها إليه.
-تراني سألتك عن اسمك؟ أجيد قراءته من البطاقة
- عفواً؟
- لا أنت مرتبك هكذا؟ قلّي، أتسكن هنا؟
- أجل، قالها وهو يرتجف بكامله.
- أين كنت حين وقع الحادث.
- آه بت خارجاً، عدت توّا.
- متى خرجت؟
- هذا الصباح.
- ألم تقل أنّك لم تبت هنا؟
ودون أن ينتظر جواباً منه نادى أعوان الأمن: «فتّشوهَ!» فتجمّعوا حوله وقيدوه أرضاً وكبّلوا يديه وأخرج مسدّس «غلوك» من جيب معطفه. كان يصرخ حتى بحّ صوته: «لست الفاعل! ما الّذي يحدث هنا بحقّ السماء؟» ثمّ يشير إلى رجل الأمن ويواصل: «هذا هو القاتل، هو مارتان ولست أنا» وحين أيقن أنه لا جدوى من نحيبه، غيّر شكواه: «أوقفوا المشهد، انتهى التصوير أوقفوا هذا السيرك أيها الممثّلون الحثالة، أين المخرج؟». لكن الأمر لم يعد كذلك. غطّوا وجهه بكيس مُعْتِم وأركبوه سيارة مصفّحة اختفت في لمح البصر.

* بنزرت/تونس