التراث صحراء مليئة بالألغام التي خلّفتها حروب أسلافنا السياسية، فتحولتْ على رمال التاريخ المتحركة إلى عقائد مقدّسة نحملها في طيّات أفئدتنا، بانحيازاتها، بالإسناد الذي خرج من رحم حروبها فصار عِلماً يُعرِّفُ لنا من هو الثقة ومن هو ليس كذلك، ما هو صحيح السند وما هو ليس بصحيح، من دون أن نسأل: كيف اختلف الناس في تقييم الرجال، بل كيف صنعوهم، ومن أين نشأت هذه الصناعة؟ كيف يكون الراوي الواحد ثِقةً لا يُشكُّ فيه عند البعض، وفي الوقت نفسه كذوباً لا يُؤخذ منه عند آخر؟يقوم كتاب الباحث علي أحمد الديري الصادر هذا العام بعنوان «خير القرون: كيف نفهم الخير في التاريخ؟» (مؤسسة الانتشار العربي) على حديثٍ يُنقل في كُتُبِ الصحاح، كالبخاري ومسلم، وغيرهما بصيغ متعددة، يقول متنه: «خير النّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوامٌ شهادة أحدهم يَمينه، ويَمينُهُ شهادته». وهو ما يُعرَفُ بحديث خير القرون.


إن وظيفة الكتاب ومؤلفهِ هنا هي تفكيك ألغام علم الإسناد بوصفه ليس علماً موضوعياً البتّة، والحفر في الكيفية التي أصبح فيها حديث «خير القرون» بمثابة كوجيتو المحدثين وأهل السلف، وواحدٍ من المبادئ التي يتم من خلالها تقييم صدق الراوي وإمكانية الأخذ منه أم لا؛ فهو نزيه بقدر ما يؤمن بخيرية قرن النبي وقُرَنائه، وتابعي هؤلاء القرناء، وتابعي تابعيهم. أصبح «خير القرون» عقيدةً مقدسةً ممزوجة بالسياسة، أو بالأحرى خرج من رحم التاريخ السياسي وسُلطته. ولذلك يقول المؤلِّف: «إن التحدي الذي يواجهه الباحث المعاصر هو كيف نحول المقدّس إلى تاريخ، وهو عكس المعركة التي خاضها أهل الحديث في ذلك الوقت وهي كيف نحول التاريخ إلى مقدّس» [خير القرون، ص 57].
هذا هو المنهج الذي يبني عليه الديري دراسته، فهو لا يقوم بإعادة نبش كتب الحديث والرجال ليثبت ما هو مثبت سَلَفاً، إن هذه مهمة العقل السلفي الذي يريد استئناف الماضي وإحياء التراث من خلال التراث، ويُقيم عمود خيمته بالاستشهاد بما في كتبه وكتب الخصوم من دون الخروج عن هذا الماضي ومتخيّلاته ومقدساته المتصارعة. على عكس ذلك، فإننا نقف في هذه الدراسة أمام عقل نقدي يحاول إعادة إنتاج فهمنا للتراث من خلال فهم البُنى المتصارعة في تاريخه. حين يريد المؤلِّف الإجابة على سؤال: كيف تُنتج القوى المتصارعة في هذا التاريخ علومها وانحيازاتها؟ فإنه لا يقوم بالعودة إلى البُنية المقدسة، بل إلى التاريخ الذي أنتج هذه البُنية. إنه حين يواجه حديث خير القرون، يعود إلى التاريخ ويُخرج أسئلته عليه، فيقول: «لو ذهبنا لقراءة تاريخ خير القرون هل ما سنجده هو الخير، أم سنجد شراً كثيراً؟ حروباً، واقتتالاً، ودماءً، وحوادث دامية بين خير الناس؟ سنجد صراعات مريرة بين هؤلاء الذين عاشوا تلك القرون وصنعوا تاريخها؟ فكيف هي خير القرون وفيها الشقاق والخلاف والاحتراب الذي نحن ورثته اليوم؟» [خير القرون، ص32].
حين نقرأ الكتاب من فصله الأول، يتبين لنا كيف يرتبط حديث خير القرون بقرون التدوين، قرون الانتقال من التراث الشفاهي إلى التراث الكتابي، وفي هذا الانتقال تضيع الأشياء أو تتحور أو يُزاد عليها، فقد خضع تدوين الخير في تراثنا لكل هذه العمليات. وسيتبين لنا ما علاقة ذلك بالسلطة، كما نجده مثلاً في الكَيفية التي وجّهَ فيها الخليفة المنصور مالك بن أنس (93-179 هـ) لكتابة الموطأ، وكيف أراده أن يقوم بتوطئة الفقه وتدوينه في علم واحد، وفقه واحد يكون للدولة وينتظم فيه الناس: «يا أبا عبدالله دَوِّن كُتباً وجنِّب فيها شَدائدَ ابن عمر ورُخَصَ ابن عباس وشواذ ابن مسعود واقصد أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة (...) واجعل العلم علماً واحداً. فقلت: يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله (ص) تفرّقوا في البلاد فأفتى كُلّ في مِصرهِ بما رآه، إن لأهل هذه البلاد قولاً، ولأهل المدينة قولاً، ولأهل العراق قولاً تعدوا فيه طورهم. فقال الخليفة: أما أهل العراق فلستُ أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، إنما العلم علم أهل المدينة فضع للناس العلم» [خير القرون، ص42-44 نقلاً عن القاضي عياض في ترتيب المدارك ج2 ص72-73].
ستحيل فكرة «خير القرون» بفضل التدوين ليس إلى خير الصحابة وخير التابعين وتابعي التابعين، بل إلى خير الإسناد كما يتضح في توجيه المنصور لمالك بن أنس: (جنِّب شدائد ابن عمر ورُخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود واقصد أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة ـ العلم علم أهل المدينة). من هنا ستبدأ فكرة خير الأعمال عمل أهل المدينة كما ستتبلور في خارطة ابن تيمية (661-728 هـ) للخير، فيحدد الخير حسب القرب من المدينة المنورة جغرافياً والقرب من قرون الخير زمنياً. سيصبح الإسناد شيئاً فشيئاً من الدين، بل هو الدين الذي تأخذ منه كما سيقول عبدالله بن المبارك (118-181 هـ): «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء». [صحيح مسلم 1/15]. ولكن ما سنفهمه في هذا الكتاب أن الإسناد ليس من الدين إنما من التاريخ.
يتناول الفصل الأول أيضاً فكرة الإجماع التي سيُؤصِّل لها الشافعي (150-204 هـ) في رسالته وفكرة لزوم الجماعة، وكيف سيرتبط كل ذلك: – خير القرون، خير الإسناد، ولزوم الجماعة – بفكرة تحصين الصحابة عند ابن تيمية.
في الفصل الثاني، يناقش الكاتب مِحنة الطبري مع الحنابلة، وهي ليست محنة الطبري في عصره وحسب، إنما محنة المثقف الذي يحتفي بالاختلاف مقابل خطاب نبذ الاختلاف، وخطاب الفرقة الناجية، عن طريق تفكيك لُغة الطبري في كتبه المختلفة مقابل لُغة كتاب «صريح السُّنَّة» الذي يُنسب إليه، في محاولةٍ لإنتاج نسخة سلفية للطبري.
أما الفصل الثالث والأخير، فيتناول بتفصيلات أكبر نشأة الإسناد، ومدارات بعض المحدثين الذين تم اعتمادهم كمحدثين ثقات وكيف أن هذا الاعتماد يتعلق بالنسب العربي الذي كان يُحتفى به في العهد الأموي، وبمدى القرب والولاء إلى السلطة وانحيازاتها وليس بمدى العلم والحفظ، ويخبرنا فيه كيف أخذت الحاجات السياسية للسند تتضاعف، وكيف تضاعفت معه المدوّنة الحديثية، ما يُضعِفُ في علم السند نفسه، فلو كان هذا العِلم علمياً وغير منحاز، فلماذا كانت مدونات الحديث تتضاعف بدل أن تقلّ؟ أليس من الواجب أن تقل بعد التمحيص والتدقيق؟!
يركز الكتاب على معالجة مشكلة الإسناد لدى الطائفة الكبرى من المسلمين، لما له من خطورة وتأثير أوسع على العقل الإسلامي في وقتنا هذا؛ ففي بحثه المعني بخير القرون ومدارات الإسناد التي أنتجتها السلطتان الأموية والعباسية، لم يَسعه أن يخبرنا عن المدارات الأخرى، حيث لم تكن أي من الفرق الإسلامية بمنأى عن التقويل على النبي وأصحابه وأهل بيته، ولم يَسلَمْ حتى المتصوفة الأبعد عن الأغيار – الدولة والمال والجاه – من ممارسة التقويل كآلية دفاعية لترسيخ الذات وجودياً، مع الاختلاف في طبيعة التقويل ودواعيه ولغة خطابهِ بالطبع.
لقد كانت مدوّنة ابن شهاب الزهري وهي أول التدوين لا تتجاوز 2200 حديث.
عقل نقدي يحاول إعادة إنتاج فهمنا للتراث

أما اليوم فهناك مئات الآلاف منها. وهناك خارطة لتطور الخطاب الشيعي ومدوّناته يخبرنا عنها المحقق العراقي هادي العلوي في مقالة مشتركة مع الباحث علاء اللامي بعنوان: «الجذور الطائفية في العراق» ويصف الكيفية التي تغيرت فيها لغة هذا الخطاب مع صعود أول دولة شيعية في الإسلام وهي دولة البويهيين (320 - 454هـ) فيقول: «المؤرخ الشيعي الوحيد الذي يمكن الركون إليه والتعامل معه كمؤرخ محترف هو اليعقوبي الذي عاش في القرن الثالث ولم يتصل بالحقبة البويهية، وكتابه في التاريخ يوازي كتاب الطبري ونظرائه من حيث الموثوقية والنزاهة. وقد يكون كتاب –الكافي- للكُليني أول كتب الشيعة الاثني عشرية وفاتحة نشاطهم اللاحق (...) وأخبار الكافي موثوقة في العموم عدا الأساطير العقائدية في الأئمة، وهو كتاب يخلو من الهجوم على أبي بكر وعمر (...) مع بدايات البويهيين برز ابن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق وهو من أغزر مؤلفيهم إذ كتب حوالي ثلاثمئة مصنف في التاريخ والأدب والفقه، وكان في خراسان وراجت مؤلفاته عند شيعة العراق. لكن الأبرز والأكثر تأثيراً هو الشيخ المفيد وكان في العراق في عز الحقبة البويهية، وألّف نحواً من مئتي كتاب في التاريخ والعقائد والفقه وقد حظي برعاية عضد الدولة البويهي، وضمّن مؤلفاته أخباراً ملفقةً كثيرة يطعن فيها بالخليفتين والصحابة. وهو الذي أطلق للراوية الشيعية خيالها الجامح (...) وكتاباته استفزازية تثير التوتر». [هادي العلوي، المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة ص112-113].
هذه خارطة مختصرة لتطور لغة الخطاب الشيعي من لغة أخلاقية في التعاليم الأولى لأهل البيت المحمدي، ونزيهة في تاريخ اليعقوبي إلى لغة لا أخلاقية وموجهة الأخبار من قبل السلطة السياسية وغاياتها. يحظى المفيد وخليفته المجلسي الذي كان مرعياً من الصفويين أيضاً بحضور واسع في الخطاب الشيعي المعاصر بينما يندر ذكر اليعقوبي وأخباره. وهنا يبرز السؤال مجدداً: ما الذي يحدد ما هو الصحيح والخطأ. من هو الثقة ومن هو ليس كذلك؟ من الذي نأخذ منه ومن الذي لا نأخذ؟ إنها السلطة، تاريخ السلطة هو تاريخ إنتاج المعرفة، ومن يحتكر السلطة يحتكر إنتاج المعرفة.