لا يخترع خليل النعيمي الصحراء كمتخيّل سردي بقدر ما يعيشها عن كثب، فهي تجربة حياة في المقام الأول، إذ تتقاطع وتفترق عمّا هو سيروي، لتتكشف عن مرئيات تتناوبها خشونة العيش من جهةٍ، وشفافية الأرواح، من جهةٍ ثانية. في روايته الجديدة «زهر القطن» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، يرمم الروائي السوري ما غاب عن أعماله السابقة من مرويات بدوية، مثل «القطيعة»، و«مديح الهرب»، و«قصّاص الأثر». كأن الصحراء موشور بظلال لا تحصى، تبعاً لجهة ترحال العائلة، والتيه في سراب الأمكنة. ذلك أن الحياة، وفق ما يقول الراوي «محسوبة بالمسافات وليس بالساعات». رحلة يقطعها أب وطفل في صحراء لا نهائية يؤثثها الصمت والريبة والخذلان. يحلم الطفل بأن يذهب إلى المدرسة كي يتعلّم الحكي، وبعضاً من حكمة الأب، والألغاز المجهولة. هكذا يقطعان المسافة نحو الشمال بدلاً من السير إلى الجنوب، الشمال بوصفه موقع الدهشة، ومهرجان الألوان، وذخيرة الكلام. سيطارد الطفل طيف طفلة شاركته اللعب يوماً، إذ كانت بالنسبة إليه، الارتطام الأول بمعنى الغريزة وعمل الحواس، لكنها ستنأى بعيداً عنه أمام أهوال الرحلة، والمحسوسات الأخرى التي ستصادفه بصحبة الأب المحزون، لولا تلك المرأة التي كانت ببياض زهر القطن، البياض الذي سيتخذ تلوينات مختلفة يقترحها الجسد، ثم الطبيعة، و«حليب الصمت».

في نهاية الرحلة، يسلّم الأب طفله وديعة لدى أحد المقرئين واعداً إياه بكبش، في حال تعلّم الطفل قراءة القرآن. تبدأ هجنة اللغة في صعوبة لفظ القاف وقلبها إلى غين، تبعاً للملفوظ البدوي. كما يستنفر صاحب «الخلعاء» معجمه الخاص والمتفرد في غربلة المحكي المحلي، وزجّه في فضاء الفصحى للقبض على سياق لغوي يمنح العبارة مغزاها الأعمق مثل «يدفر»، و«يتمرّخ»، و«يحوص»، و«يتسلحب». وهو بذلك لا يخرج عن منطق الشخصية بقدر ما يكسوها بريش المكان ورائحته وتقلّباته، فيما ترقى اللغة إلى تضاريس أخرى باكتساب الصبي رصيداً معرفياً ومعنى للوجود والكون، فكلما قطع مسافة نحو الشمال، تتخذ العبارة رنيناً مختلفاً (سبق وأخبره الأب بأن: الكلام بلا جوهر يغدو تبناً ولا يستحق، في هذه الحالة، سوى أن يكون علفاً للبهائم). سيقتحم غرفة الصف في المدرسة الطينية حافياً، وسط دهشة المعلم والتلاميذ من هذا الكائن الغريب، لكن هذه الصورة ستتلاشى، حين يباغت الجميع بنباهته وتفوقه في الدروس. بمكابدات حياتية شاقة سيقطع المراحل التعليمية بمهارة، متذكّراً عمله في حقول القطن، والملامسات الحسيّة الأولى مع إحدى عاملات القطاف، والعيش في كوخ للدجاج.
«من لا يحيا لا يتذكّر»! وفقاً لهذه المقولة، ينسج الراوي سجادة الحكي بقرن غزال، من دون أن يهمل خيطاً واحداً من صوف الأسى والبؤس والوحدة، كأنه لم يغادر رواق الخيمة المصنوعة من شعر الماعز، أو ينسى طعم عصيدة الذرة، في الأرض الأولى، قبل أن يكتشف دمشق التي انتسب إلى جامعتها لدراسة الطب والفلسفة بتوقيتٍ واحد. وإذا بالعالم الذي كان عنده مسطّحاً، يصير عمودياً، وهو في الأسفل «في أسفل نقطة من ذلك العالم المتراكم مثل متاهة شاقولية»، لفرط اللذة التي فتحت أمامه كوناً فسيحاً بالمقارنة مع ماضيه المضطرب والمثقل بالخواء، رغم أنه اضطر للسكن في بستان عند أطراف المدينة. سيتأطر عالمه بالقراءة، وستكون النساء مغناطيس الشهوة، كما لم يعد الفضاء مكشوفاً أمام الرؤية، كما في البادية «أما المسافات، فقد صارت مقروءة أكثر منها منظورة». قراءة «الأخوة كارامازوف» لدستويفسكي ستحيله إلى عتبة معرفية أخرى، وارتكاب حماقات خطيرة ستقلب حياته رأساً على عقب. سوف يتساءل «كيف احتملت كل هذا العوز الذي أعيشه منذ طفولتي؟». سؤال متأخر، لكنه سيقوده إلى التمرّد على تاريخه البائس والجحيمي والمنهوب، و تالياً، التفلّت من سكونية ما يحيط به، وهو ما يجعله يغامر بحياته دفعة واحدة بأن يسلك طريق بيروت، خصوصاً بعد استدعائه من قبل المجلس العسكري للتحقيق معه بخصوص محظورات ارتكبها في قصيدة وردت في كتاب نشره أخيراً. هكذا عبر الحدود نحو بيروت السبعينيات التي كانت مثل «معرض أجساد كوني في الهواء الطلق» يقول. هنا سيكتشف البحر بوصفه صحراء مائية، ثم سيبحر نحو الضفة الأخرى من المتوسط، من دون أن يلتفت خلفاً.
بيروت السبعينيات كانت مثل «معرض أجساد كوني في الهواء الطلق»


لا يتردّد خليل النعيمي في نبش سيرة طفولة متروكة في العراء، وأحوال بشر هائمين في صحراء مفتوحة، ومصائر معلّقة، وأقدار مكتوبة منذ الأزل، وترقّب ما لا يأتي، كائنات تتدثّر بعباءة الحكمة لاحتمال قسوة الطبيعة وألغازها وفتنتها، إذ لا مسافة بين القاع وطيش الغيوم والريح. لكن هذه القسوة والبلاء والمحن المتعاقبة، تحيل في المقابل إلى نَفسٍ صوفي في تفعيل سيرة البداوة التي طالما أُهملت سردياً، كأن نفي جغرافية الجزيرة السورية بوصفها «مستعمرة للعقاب» أصاب مدوّنتها الشفوية أيضاً. ذلك أن نصّ الصحراء ظل خارج السكة السردية العربية، عدا تجارب قليلة، وفي أحسن أحواله، ينبغي أن يكون إكزوتيكياً وحسب. لكننا هنا، سنغوص في الوحل، وسيعصف العجاج في المكان، وستخرج العقارب من مكامنها، وسيطارد الطفل الجرابيع، ثم سيراكم ألوان الربيع تبعاً لترحاله. كما سيستنفر حواسه إلى أقصاها وهو يكتشف لذة الجسد. تتوارى صورة الأب وتحضر خطفاً، مثل طيف، ليحل الصبي مكانه في حفريات تتناهبها ذاكرة متوقدة، تنطوي على حنين مقيم في الضلوع للبرّية والحماد والبادية، في قوسٍ مفتوح على الرمل، سوف يغلقه، في نهاية الرحلة، على الماء، بعدما تعلّم الحكي «بلسم الكلمات يشفي الأسى ويمحو العثرات» يقول.
يتكئ صاحب «مخيّلة الأمكنة» في مروياته على نوتة موسيقية للصحراء راسماً خرائط وسلالم إيقاعية يتقاسمها بالتناوب، الكلام والصمت، والرائحة والصوت، وألوان العشب والماء والتراب. في هذا الطراز من السرد الحميمي، علينا أن نتوقّف مليّاً أمام فتنة نصّ الصحراء، وخصوصية هذه المغامرة الروائية المتفرّدة.