لدى ميلان كونديرا (1929) كلّ ما يلزم لإنشاء سيرة معتبرة وجذّابة، فصاحب «خفة الكائن التي لا تحتمل» لطالما أثار العواصف، سواء في بلاده الأصلية (تشيكوسلوفاكيا) أم في منفاه الباريسي. نظرة واحدة إلى ملفّه الضخم في أدراج البوليس السرّي التشيكي تشي بخطورة هذا الروائي بالنسبة للسلطة. منذ أن ألقى كلمة في المؤتمر الرابع للكتّاب التشيكيّين بعنوان «إعادة كرامة الأدب وجودته» (1967) وُضع في خانة الخصوم، وطُرد من الحزب الشيوعي، وسُحبت مؤلّفاته من المكتبات. في كتابها «السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا» (دار ترياق، ترجمة وئام غداس)، تقتفي آريان شومان في سلسلة تحقيقات استقصائية أثر الروائي اللّغز الذي تحوّل شبحاً، مؤثراً حياة التخفّي على صخب الصحافة، رغم أنّ باريس سعت إلى التعامل معه بوصفه موضة رائجة بمواصفات استثنائية: شيوعي منشقّ، وأحد أبرز ضحايا ربيع براغ 68، و«جندي فوق دبابة». ورغم إنكاره صفة الكاتب المنشق، إلا أنه بات مادّة دسمة للصحافة، خصوصاً بعد ترجمة أعماله إلى لغة موليير بعناية أراغون، وسارتر، و«دار غاليمار».


سيكتشف صاحب «فالس الوداع» متأخّراً بأنّ نصوصه المترجمة إلى الفرنسية قد عبث بها المترجمون، فقرّر مراجعتها بنفسه، كما لو أنه يُعيد كتابتها، كلمةً كلمة، قبل أن يهجر لغته الأصلية ويكتب بالفرنسية مباشرةً، اللغة التي فتحت له «الطريق الملكي للعولمة الأدبية». تكمن أهمية هذه التحقيقات التي نُشرت في صحيفة «لوموند» (2019) أولاً، في نبش الأرشيف السرّي لهذا الروائي المتهكّم الذي استكشف «المشهد الروحي المعقّد الذي تسكنه شخصياته». في باريس منتصف السبعينيات، سعى صاحب «الخلود» إلى تحصين عزلته رافضاً المقابلات الصحافية «مثل هندي يخشى أن تُسرق روحه» وفقاً لوصف رفيقة دربه «فيرا»، فيما كانت أغلفة رواياته في واجهات المكتبات تعوّض عن حضوره الشخصي، في ما يقرب من 50 لغة عالمية، تحمل تلك البصمة المفارقة التي تمزج في وعاء واحد أجناساً إبداعية مختلفة، بـ «سرد مونتاجي مقتضب، ومثير للتأمل»، وبحذر واضح من هيمنة الإيديولوجيا على الحالة الإنسانية. سيعتني هذا الروائي المتهكّم أيضاً بتأصيل أسئلة الرواية نقدياً، كما في «الوصايا المغدورة»، و«فن الرواية»، و«الستارة» كمحصّلة لمحاضراته الجامعية التي كانت بمثابة مختبر سرديات هائل في فحص نصوص كافكا ودوستويفسكي وآخرين، على خلفية ثقافته الموسيقية العالية التي ورثها عن والده الموسيقي المعروف.
على الضفة الأخرى، ترصد آريان شومان أسرار الورشة الروائية لصاحب «الحياة هي في مكانٍ آخر» التي تختزلها بفكرة لكونديرا نفسه «نصف موهبة الكاتب هي إستراتيجيته وتقنياته». وهذا ما نجده حقاً في أسلوبه المتفرّد لجهة المعمار السردي، وتعدد الأصوات، وعنايته بالإيقاع، واستجلاب عناصر متنافرة وصهرها في سبيكة واحدة. سرديات سيهجوها بعض النقاد بوصفها «أسلوباً جافاً مثل أحجية الكلمات المتقاطعة». إذ ستتلاشى البهجة الباريسية في روايات كونديرا تدريجاً، وستوصم بعضها بالفشل، فكان عليه إطلاق رواياته بلغات أخرى قبل صدور طبعاتها الفرنسية، بقصد تسويقها على نحوٍ أفضل. في روايته الأخيرة «حفلة التفاهة» (2014)، أقام جردة حساب مع ماضيه بهجاء الحقبة الستالينية، لكن الروائي التسعيني بدا متعثّراً وفاقداً للبريق مقارنة بمجده السابق، وربما لهذا قرّر العودة إلى بلاده، بعدما أعادت إليه جنسيته، في نوع من الحنين إلى المكان الأول: «لا مسار لمشاهدة معالم كونديرا في براغ، فقط الأشباح التي هربت من كتبه» تقول شومان في وصف تضاريس الحي الذي يقطنه بمرتبة مواطن فخري، وإن لم تخلُ شيخوخته من منغّصات لجهة الغيرة الأدبية من شهرته، بإلصاق تهمة التعاون مع البوليس السرّي في شبابه، ما جعل كونديرا يخرج عن صمته الطويل قائلاً «هذه ضربة وضيعة. لقد تمّ المساس بشرفي». من جهته، يلخّص بيار نورا سيرة صاحب «الجهل» بأن مصيره تراجيدي: «كان يعلم أن التشيكيّين تبرأوا منه، ونسيته جائزة «نوبل»، ثم ابتعدت عنه فرنسا بعدما تبنّته». وسيُدلي أحد أعمدة «غاليمار» فيليب سولير بدلوه قائلاً: «حياته مؤثرة ودراماتيكية قادماً من بلد لغته صغيرة إلى بلد لغته كبيرة. يجب أن يتمتع بأعصاب متينة، وهذا ما قد كان». لعلّ الصورة النهائية لكونديرا العائد إلى وطنه أخيراً تتمثل في التيه بين الوطن والمنفى: «عندما نتقدّم في السن، لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون» يقول، ويُضيف «تريد أن تعرفني، اقرأني».