رحلت يا حححميدة الملعونة سبعاً رحلت، والرحيل كما الموت، والرحيل موت، عد للنوم أيها الحيوان، ما يوقظك في هذا القيظ! حميدة ما عادت هنا لا تهزّ ذنبك الملعون أيّها الكلب الأجرب. ركز ركز، يجب أن أتنفس بعمق. ركز برد برد برد. يجب أن أركز على نقطة ذكرى واحدة بعينها لتكون مرساة توقف اندفاع أفكاري المتمردة. ما أسهل القول حححميدة من لي بعدك أيتها الشيطانة، أتراك من سلالة الأفعى التي أغوت بالإثم، أف شهيق عميق، ركز تذكر أن تركز على الشهيق والزفير، ظلام شهيق زفير، ظلام زفير شهيق، نفق عميق زفير، لا فائدة رباه، ركز أو لا، تركز عليك اللعععنة، تنورة مذيعة النشرة الجوية قصيرة جداً، تابع هز ذنبك الأجرب أيها الحيوان، ما من حميدة ها هنا ولا هناك، ركز هناك تلك الحكاية، سائق الميكروباص يحكي لمساعده عن المغامرة التي قام بها ليلاً لاسترجاع حقيبة تضم مسدسين وستة أصفاد. ركبتُ وسط الحكاية التي لا أعرف كيف بدأت عن ضابط كان لسبب غامض في حي شعبي ليلاً تعرض لاعتداء وبلا بلا بلا. ركز. ماتت أمي. ماتت حميدة. مات جواد. أفتح عيني. ماذا جنيت عليّ أيها الطططبيب الملعون تسعاً وتسعين مرة؟ قلمك الصوتي يحدق فيّ بعينه الخضراء الوحيدة، وأنت لا شك جالس على مقعدك الوثير تشبك أصابع يديك على مكتبك، وتستمتع بمشاهدتي أعاني لتجميع أفكاري. ماتت أمي، ماتت حميدة، مات جواد وسيربيروس أمام أبواب هاديس المشرعة في انتظاري. اللعععنة. مذاق الصديد. قاوم. قاوم. لا تتقيأ من جديد.
جنيفر باكر ــ «للجسد ذاكرة» (زيت على كانفاس ــــ 60 × 48 سنتم ـــــ 208)

طالت المعاناة مع السرطان. سنة كاملة من العلاج الكيماوي لم يأت بأي فائدة إلّا آلاماً متواصلة وفي وسطه بُتر الثدي الأول، وبعدما بدا أن البتر قضى على المرض، انتقل الورم الخبيث إلى الثدي الآخر، وملَّت والدتي من رحلات العلاج الطويلة ذهاباً وإياباً بين طنجة والرباط، وثَقُل كاهل الأسرة بارتفاع مصاريف العلاج. ماتت أمي ولم تكن حميدة هنا لعزائي. بعد عامين في معهد الملك فهد للترجمة، طارت إلى نيويورك تريد شهادة الدكتوراه في الترجمة المقارنة. مقارنة ترجمات القرن الحادي والعشرين للقرآن الكريم. قالت. لكني لم أصدقها. لا أصدقها. لن أصدقها. ما أبعدها عن ذلك الموضوع بُعد الأرض عن مركز الانفجار الأعظم، إلا أن يكون الموضوع ذاك نافذتها إلى منحة دسمة أو وظيفة مرموقة في أحد مراكز الأبحاث أو المؤسسات الثقافية الخليجية. فحصتُ ثديي حميدة حتى إبطيها نقطة نقطة بحثاً عن كتلة صلبة. ضحكَت. ليس عليّ أن أقلق. قالت. مرضه معد لكن لا شيء يستدعي القلق. كان والد جواد يقول. كانت ما تزال في الرابعة والعشرين وسرطان الثدي لا يأتي قبل الأربعين. لكنك يا طططبيببي المحتال، لم تخبرني كيف أخبر ححميدة دون أن ترتعب وتهرب مني. أنا لا ألتهم حبوب منع الحمل. قالت. تلك الأقراص الكيميائية التي تربك هرمونات المرأة هي السبب الأول لسرطانات الثدي وعنق الرحم. النساء لا يعرفن ذلك. لكن سرطان أمي لم يأت بسبب تلك الحبوب، بل بسبب أطنان غاز الخردل التي ألقتها إسبانيا على جبال الريف لتغطي على هزيمتها الفادحة في أنوال. يا نساء العالم اتّحدن وتوقفن عن ابتلاع حبوب منع الحمل. فليتناولها الرجال. قالت حميدة التي لا تحب العازل الطبي. قالت بأنه يقتل المتعة تماماً. هل سارة الخائنة لم تكن هي الأخرى تحب العازل الطبي؟ طبعاً لا جواب، أنت مجرد قلم تسجيل صوتي يلتهم كلامي ولا يُعيد إليّ إلا الصمت. ثقب أسود. قلم بليد. حميدة لا تريد حاجزاً بين اللحم واللحم. لكنها في أميركا الآن. الرجال هناك لا يخرجون من البيت إلا وفي جيوبهم دستة من الكوندومات حسبما تقول أفلام هوليود ومسلسلات نتفليكس التي تكتبها خوارزميات الذكاء الصناعي. بخ. قريباً ستؤلف الآلة الموسيقى وستكتب الروايات، وأنا لا زلت أخربش على الصفحات روايتي التي لا تريد أن تكتمل وأخاطب قلماً بليداً ليس يفعل إلا امتصاص كلامي. متأكد أنها هناك في حضن رجل ما. بل أكثر. امرأة بشبقها الخارج عن السيطرة لن تتحمل كل هذا الوقت. مجنونة هي وقد تتحول إلى استعباد النساء إن لم تجد الرجل الذي يحقّق لها الأمان المطلوب. كنا نتلاحم يومياً طيلة عام ونصف بعد أسابيع من محاولات التعلم الخرقاء من جهتي. كل يوم إلّا أيام دورتها وإباضتها. جيد أنها رفضت العازل الطبي وإلا لذهب دخلي الشهري كاملاً إلى الصيدلية. أثناء زيارتنا الأخيرة للمستشفى، وجد الطبيب أن حالة أمي تفاقمت. غالباً بسبب تعب السفر. الحافلة من طنجة إلى الرباط في ذلك الصهد كادت تقتلني أنا الشاب المعافـــــــ(عين السايكلوب الخضراء تغمز لي. نعم اسخر كما تشاء)ـــــــى فكيف بوالدتي المريضة. أغمي عليها عند مدخل المدينة فطلب مساعد السائق المرتجف الخائف من مسؤولية لا ذنب له فيها، سيارة إسعاف التقتنا في الطريق. تلك ست مئة درهم إضافية كان عليَّ دفعها أولاً قبل أن يسمح المسعف بإخراج والدتي من سيارة الإسعاف. أصرّ الطبيب على حجز والدتي في العناية المركزة بضعة أيام، ولم يكن لديّ ما أفعله في شوارع العاصمة الباردة. أردت العودة إلى طنجة. همست لي الممرضة بنبرة صوت حزينة وملامح متعاطفة أنه من الأفضل أن آخذ والدتي إلى البيت. العازل الطبي لا يتوفر مجاناً إلا بجانب أبواب الثانويات حيث توزعه حسبما يقال جماعات تنصيرية تريد تخريب أخلاق المسلمين. مساكين أولئك المسلمون الذين ينتظرون من يقدم لهم عازلاً مجانياً لينحرفوا عن الصراط المستقيم. يُقال بأنّ مستوصفات الأحياء الشعبية تقدم كوندومات مجانية. لكن من سيثق في هدايا وزارة الصحة؟ أليس كذلك أيها الطّطّطّبببيب التعس؟ لا تختبئ. أنا أراك خلف هذا المصباح الأخضر. إنه كاميرا لا شك. أنت حتماً تراقبني الآن كما تفعل الكاميرات في الشارع ومستشعرات الحركة في الهواتف وفتات الكعك في فايسبوك وسجلات المشاهدة في نتفليكس. أليس كذلك أيها الطّطّطّبببيب التعس؟ لا أحد يثق في هدايا وزارة الصحة. هي إمّا عوازل ملوثة بما يلزم لتصيب الرجال بالعجز والعقم أو هي مهترئة عديمة الجدوى قد تتمزّق عند أول احتكاك. لم تحبل مني هذه المجنونة إلا بفضل العناية الإلهية. كان عليّ أن أجزل العطاء صدقات شكراً للعناية السماوية لكني بخلت، وها أنا ذا في هذه الغرفة البرزخية الضيقة الخانقة. أعرف أنها كانت مخلصة لي. لكنها لم تعد هنا الآن ولا أعتقد أنها ستترك نيويورك وتعود إلى طنجة. لن تفعل. ليس من أجلي وقد هرَبت يوم أخبرتها كأني صرت فارس الفرسِ الشاحب. ما كادت الحافلة تخرج من مدينة القنيطرة حتى جاءت المكالمة الهاتفية. ماتت أمي.

(*) المقطع الافتتاحي من رواية «ليل طنجة – الرواية الأخيرة» الصادرة حديثاً عن «دار العين/ القاهرة».
(**) طنجة/المغرب