يعوّل سام سافاج (1940 ـــ 2019) على براعة الجملة الأولى في كتابة قصة، ويضع في اعتباره عبارات افتتاحية ملهمة، كتلك التي يفتتح بها نابوكوف روايته «لوليتا»، أو تولستوي أو فورد مادوكس فورد. بالنسبة إليه، ما إن تقبض على تلك الجملة اللعينة بإحكام، «فإن الحكاية كلها سوف تسيل من ذلك الوعاء». في روايته «مغامرات قارض كتب» (2006) التي صدرت أخيراً بالعربية (دار مسكيلياني، ترجمة أشرف القرقني)، سيكشف الكاتب الأميركي باكراً أنّ من يروي الحكاية هو جرذ صغير يدعى فرمين، أوقعته المصادفة في أنبوب يقود إلى مخزن للكتب أثناء رحلة فرار الأم من ملاحقة ما. سوف يفترق الأشقاء بعد فترة قصيرة إلى أماكن مختلفة، فيما يستقر فرمين في قبو المكتبة، عدا جولات خاطفة تتيح له معرفة ما يجري في ميدان سكولاي في مدينة بوسطن. سوف يلتهم رواية «موبي ديك» أولاً، من دون معرفة محتوياتها، لكنه سيجد نفسه مفرطاً في القراءة مثل «دون كيشوت» وبالجنون نفسه، فيما سيستبدل طواحين الهواء بطواحين الثقافة «تلك الطواحين الإيروتيكيّة، مصانع الشبق الصغيرة، المعامل الشهوانية للمسرات الغريبة، أرض أحلام الفاسقين المحبطين».


الرحلة من مضغ الورق إلى قراءة الصفحات، وضعت فرمين أمام مغامرة أكثر جاذبية، حين تسلّل من القبو إلى المكتبة أثناء إغلاقها ليلاً. هناك في رف يحمل اسم «روايات»، ثم لافتات أخرى مخصّصة لكتب التاريخ والأديان، وعلم النفس، وجد ضالّته، وتعلّم معنى لذة القراءة «أصبحت أقرأ أكثر، وأمضغ أقلّ». ثقب في الأعلى أتاح أمامه اكتشاف وقائع ما يجري في المكتبة من جهة، ومجريات الحياة اليومية في الشارع من جهةٍ ثانية. لكن ماذا يفعل البشر أمام رفوف الكتب؟ وما هي مهمة نورمان صاحب المكتبة؟ هذا ما سيكتشفه فرمين يوماً وراء يوم، وهو يلتهم الروايات العسيرة وكتب الفلسفة المختصرة، وحتى كتب إدارة الأعمال. وبمغامرات إضافية، تمكّن من الذهاب إلى الأماكن المجاورة بحثاً عن الطعام، وتالياً المقارنة بين مذاق الكتاب وجودته الأدبية بهدي شعاره الجديد «لذيذ في الأكل، ممتع في القراءة»، مع الاعتراف بصعوبة استيعاب الأعمال الكلاسيكية الموجهة للأطفال.
بخلاء الشوارع ليلاً، يغامر فرمين بنزهات اضطرارية، مستغنياً عن مضغ الكتب بالتفتيش عن بقايا طعام في صالة المسرح المجاور للمكتبة. هاهنا ستُتاح له الفرجة على مسرحيات وحفلات موسيقية ما يغني ثقافته أكثر. سننسى تدريجاً بأننا أمام جرذ يروي حكايته مع الكتب، نظراً إلى الجرعة العالية التي يمنحها لنا الراوي في أنسنة الشخصية، والمسافة التي تفصل بين البهيمية ولذة المعرفة. أن تقرأ «غاتسبي العظيم»، و«أليس في بلاد العجائب»، و«عناقيد الغضب»، و«عشيق الليدي تشاترلي»، ستتمكن من أن تمشي على قائمتين بدلاً من أربع، وأن تكتفي بضوء صغير للخروج من عتمة الجهل: «في البداية كانت شهيّتي متوحشة، غير مدرّبة، مشوّشة، وشبيهة بشهية خنزير، حتى إنني لم أكن أميّز لقمة من فولكنر عن لقمة من فلوبير. لكنني شرعتُ سريعاً في تبيّن فوارق دقيقة. ولاحظتُ أولاً أنّ لكل كتاب نكهته الخاصة». الانتقال من المدينة الكهفية للجرذان إلى فسحة الضوء في الأعلى، ستتيح أمام فرمين تحسّس طريقه باستعمال حاستي الشمّ واللمس وصولاً إلى سقف القاعة الكبرى للمكتبة، وما تحتويه من كنوز، بالإضافة إلى إمكانية التلصّص على العالم الخارجي: «لقد سمحت للكتب بدخول أحلامي. وفي بعض الأحيان، كنت أحلم أنني واحد من شخصياتها» يقول.
سننسى تدريجاً بأننا أمام جرذ يروي حكايته مع الكتب


سوف يتحاور مع دوستويفسكي، وستربندبرغ، إذ لا علاقة لحجم جسدك الصغير بعظمة جنونك أو اعاقتك. في أوقات الضجر، سيكتفي بقراءة الجريدة التي كان المكتبيّ يتصفحها كل صباح، والحوارات التي يديرها مع زوّار المكتبة، ولحظة تدوين أسعار الكتب المستعملة التي يحصّلها من المزادات بقلم رصاص على صفحاتها الأولى، وقراءة الإهداءات. كما سيتلصّص على أسماء الكتب المحظورة والمهرّبة التي تُباع سرّاً بتواقيع هنري ميلر، وجان جينيه، وفرانك هاريس. بمثل هذه الأسماء، يعيدنا سام سافاج إلى فترة الستينيات من القرن المنصرم في أميركا، وأهواء تلك الحقبة العاصفة التي شهدت رقصة الفرد استر المشهورة، وأفلام الويسترن، والأفلام الموسيقية. بخروج فرمين إلى الحديقة العامة، نتعرّف على موسوعة متنقّلة، لكن زوّار الحديقة سيتصرفون بعدوانية كما يفعلون مع أي جرذ آخر، إلى أن يجد نفسه، وهو في أقصى حالات الألم، يتأرجح في سلّة معدنية لدراجة هوائية، عائداً إلى البناية نفسها التي ولد فيها. ففي الطابق الأخير الذي يعلو المكتبة، يقطن جيري ماغون، وهو كاتب يعيش وحيداً. عند هذا المنعطف من متاهة الكتب التي تضج في رأس الجرذ، تتشابك العلاقة بين القارئ والمؤلف، وتبدأ رحلة جديدة في متاهة مكتبة منزلية، وكاتب غريب الأطوار «كان جيري يغمغم ويتمتم أثناء الكتابة، يظل يدندن بصوتٍ عالٍ، أو يهمس بحروف غير واضحة كأنه شخص ما يتلو صلاة في غرفة بعيدة، فيصل الصوت محاطاً بهالة معنى». بشفاء ساقه من الإصابة، سيكتشف فرمين أنبوباً يقود إلى متجر الكتب في الأسفل، ما يُتيح له قراءات جديدة، رغم أن المكتبة على وشك الإغلاق النهائي بعد هدم البنايات القديمة المحيطة بالساحة. كما سيرافق جيري في جولاته نحو الحديقة لبيع مؤلفاته وتوقيعها لمن يرغب بشرائها. سوف يغادر جيري إلى سان فرانسيسكو، فيما كان فرمين يتأمّل الحياة وهي تخبو من حوله، لكن من دون أن يتوقّف عن الغوص في متاهة الكتب وخرائط الروح، عسى أن يصبح كاتباً في يومٍ ما، ويتمكن من كتابة الجملة الأولى على غرار ما فعله أولئك الذين يحتلّون رفوف المكتبات برواياتهم العظيمة.