أدركتُ عمراًألِفَت النّفس فيه الغياب،
أصدقاءٌ يتساقطون أو يغادرون،
و أحِبّة في كل الفصول يرحلون.

تعود بي الذكرى
إلى صيف عام 1981
في بلدتي «الصّوانة»
يوم تصوير مشهد البيت الرِّيفيّ
في أشهر أفلامك:
صباح هادئ
أو بعد ظهر ساكن،
في الخلفية هواء خفيف
يَحُفُّ السَّرْو العالي
و يتغلغل بين أغصان الياسمينة
عبر مَشْرَبِيَّةِ البوّابة الحديديّة.
ابن الثامنة يَرْقُبُ حركة فريق التّصوير، في المشهد الأوسع
قرب هيكليّات الإضاءة السّاطعة
المُنقَضَة على فراغ الشُّرفة المنخفضة
أمام السّاحة الدّاخلية الصّغيرة
لبيت السيّد عبد الحسن «أبو محمود».

هل حَضَرْتُ التّصوير فعلاً؟
هل استَرَقْتُ المشهدَ المجتزأ في ذاكرتي
من بين فخذَي تلك المرأة البَهيَّة؟
أم هو خيالي وَلّفَ كلّ ما تقدم؟
فاختلط عليّ الفِلمُ بالعِلمِ،
مِنْ فَرطِ ما تماهَيتُ مع شخصيّاتك،
و ذَابَتِ المُعَايَنَةُ بالوَثِيقَة،
مِنْ قُوَّةِ إحَاطَتِكَ بالأَمْكِنَةِ و المَسَاحَات،
- تلك سَطْوَةُ شَبَحِيَّة أَحْيَاء «بيروت اللّقاء»
حَسْبَ جِيل دُولوز.

أَنهَيتَ حَياتَكَ الفيلميَّة بـ «خلص»،
آخر أدوار صديقك فادي أبو خليل،
شاعر الويمبي، و سِكِّير بعض ليالي الـ «شِّي أَندريه»،
و عباس ابن فرنَاس فَضاءات شارع الحمراء.
وَثَّقْتَ احتِراقَهُ السّريع وسُقُوطِهِ المُدَوِّي
- على السِّيلُولُويْد كما في الحياة -
أنْهَكَكَ تَعَبَهُ الأُسْطُورِيّ
و الإنتاجُ
و السّرطانْ،
فانْكَفَأتَ عَنِ المدينة على مَرَاحِل.

التَقَيتُك بعدها مرّتين:
في الأولى
ودّعْنَا سَويَّةً
في زيارة أخيرة
مسرح بيروت البحريّ،
و في الثّانية
تَسَامَرنا لدقائق
في صالونك المحاذي للخط الأخضر
رغم مَرَضِكَ البَالِغ و وَهْنِكَ الظَّاهِر،
و من ثمّ اختفيت.

ستّة عشر عاماً
أَقَمْتَ في عُزلة اختيارية،
فَخَانَكَ جَسَدُكَ في بروكسل
حِينَ تُقْتَ لِطُرُقَاتِ الغَنْدوريَّة ــ أرنُون،
ثمَّ غَافَلَكَ قَلبُكَ التَّعِب،
لَحْظَةَ جَالَت بيروت في ذهنك.

ستة عشر عاماً
انتظرتَ خلالها شَارَةَ النِّهَايَة يا بُرْهَانْ،
أَنِفْتَ في آخرها الحَجْبَ والانتظار
فَأَتَاكَ اليوم ذَيْلُ صَيفنا التّعيس،
بنهاية خريفك الثمانينيّ،
خاتِمَةً لِعُمْرِكَ الذَّهَبِيّ.
* لبنان