ترصد شهلا العجيلي في كتابها «الهوية الجمالية للرواية العربية: رؤية ما بعد استعمارية» (ضفاف/ الاختلاف/ مجاز) تشكّلات الرواية العربية جمالياً، والمسافة الطويلة التي قطعتها هذه الرواية منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى الألفية الثالثة، وصولاً إلى التجربة الجمالية المحمولة على رافعة النهضة والتنوير والحداثة. تربط الروائية والأكاديمية السورية بين التحوّلات الاجتماعية والثقافية والأنساق السردية في رحلتها الشاقة لبلورة ذاتها بين قوسي المغامرة والتجربة، وإذا بالوعي الجمالي يزداد بريقاً بخلخلة البنى التقليدية، بعيداً عن «صراعات التأصيل والتغريب».

نكتشف حضور الهوية الجمالية ونضجها، كلما ابتعدنا عن المغامرة الأولى وارتباكاتها السردية الهجينة لدى التنويريين الأوائل مثل خليل الخوري، وفرنسيس مراش، وزينب فواز، ومحمد المويلحي. وتلفت صاحبة «سجاد عجمي» إلى أن رؤية ما بعد الاستعمار، تعمل على «تفكيك المجتمعات من الداخل عن طريق حرب الهويات، وإشعال الصراعات بين سياساتها، فتنتج منظمات رديفة إنسانية، واقتصادية، وسياسية، وحراكات مدنية، تشرع في عملية التقويض، وتنشئ مجتمعات جديدة أو تدعم دولاً حاضنة تتولى مهام المجتمع الدولي السابق أو مهام الدولة الوطنية، لتشعر الضحايا بالأمان الذي يمكن أن يجدوه بعيداً عن الوطن، وأن الوطن والأنظمة أكثر عداء لهم من الآخر المستعمِر». وإذا بالحياة القديمة مجرد ذكرى تحفظها الحكاية، الحكاية التي ستصبح مادةً للنصّ الروائي الذي سيكون بديلاً «للجغرافيا المفقودة أو الجغرافيا الحلم». هنا تتخذ الرواية صورة التعبير الثقافي عن الأنثروبولوجيا في المقام الأول. المنعطف الأبرز الذي قاد الرواية العربية إلى مطرحٍ جمالي آخر، تجلّى في سرديات العقد الثاني من الألفية الثالثة. نقصد نصوص ما بعد زلزال الانتفاضات العربية، إذ اقترحت نصوص هذه الفترة شكلاً مغايراً للمجتمعات العربية، برفض المرجعيات القديمة لمصلحة «مجتمعات تذويتية، متخيلة أو ديستوبية، أي تصنع مرجعياتها بشكل ذاتي، وتقف فيها الذات ضد التجربة الجماعية للعالم، وأداتها الرئيسية هي التكنولوجيا، كما يصارع الأفراد من أجل الكرامة التي هي فكرة أخلاقية، مقرونة بالديمقراطية، والتي تقف في وجه الاحتكارات التكنولوجية والعلمية، ويؤكد كل نص بطريقته قدرة الذات في اختيار متعالياتها وصنع تاريخها بنفسها، وهذا سينتج هويتها الجديدة». وتتشكل هذه الهوية على أساس «الفرديّة في الرؤية الجماليّة، والخروج من صناديق التيّارات والمدارس بمعاييرها الجماليّة المتعارف عليها». كما اشتبكت الرواية الجديدة مع أسئلة ما بعد تقويض السلطات الديكتاتورية لجهة «قتل الأب»، وصوغ مرجعياتها ذاتياً كبديل لما سبق.
حالة الاحتضار والإحباط التاريخي السائدة، منحت الرواية أرضية ليبرالية شاسعة


على الضفة الأخرى، أسهمت دراسات ما بعد الاستعمار في تحقيق عالمية الأدب بخروجه من نطاق اللغة الأم إلى آداب اللغات الأخرى بالتوازي بين الرؤية الإمبريالية والكتابة المضادة لها، ما أنتج أدباً عالمياً، بتضافر التاريخ مع الفضاء الجغرافي لإنتاج إمبراطورية عالمية، فأفرزت المركزية الأوروبية «ثقافة التقاطع»، عن طريق المزج بين «القول الاستعماري عن الآخر من ناحية، وآداب العالم الثالث من ناحيةٍ أخرى، بوصفه موضوعاً من موضوعات الدراسة عبر ثلاثة مفاهيم هي: عالمية الأدب، والأدب العالمي، والإمبريالية». هكذا تحقّقت الإمبريالية إبداعياً بالجماليات بفضل «سلطة التشكّلات الثقافية»، وتتسم الكتابة الإمبريالية بربطها فن الرواية بالعالم التاريخي، وعبء الرجل الأبيض، والوصائية، والتماهي مع المستعمَرين، والمعيارية، فيما تتمثّل نصوص ما بعد الاستعمار بالمحليّة المرتبطة بتعيين الزمان والمكان: الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، وعبد الرحمن منيف (مدن الملح)، وإبراهيم عبد المجيد (لا أحد ينام في الإسكندرية)... بالإضافة إلى «الخصوصية الثقافية»، و«التأكيد على التعددية الثقافية» عن طريق الرغبة في تدمير واحدية النسق الاستعماري المسيطر، و«الحنين إلى الصفاء المستحيل». في «تفكيك التجربة الاستعمارية روائياً»، تلجأ الباحثة إلى قراءة روايات أحمد المديني بوصفها نموذجاً لتقويض الإمبراطورية بسعيه إلى «تكوين هوية سردية للجماعة»، باستحضار حكايات التراث ليفسر من خلاله الراهن، وبمعنى آخر التأكيد على «نوستاليجيا عنيفة»، تقابلها قوة الرغبة في التحديث، مع وعيه بهجنة المجتمع الذي ينتمي إليه، بالإضافة إلى نبذه فكرة الذوبان في ثقافة الآخر، متمسكاً بالخصوصية الثقافية. ولكن ما هي المسارات الثقافية للرواية العربية في الألفية الثالثة؟ تلفت صاحبة «صيف مع العدو» إلى أن حالة الاحتضار الصريحة والإحباط التاريخي التي نعيشها اليوم، منحت الرواية أرضية ليبرالية شاسعة في رسم خرائط سردية تهتك بفعالية المعايير الثقافية والأعراف الراسخة، وتالياً انعتاقها من سؤال الهوية الوطنية والإثنية والدينية نحو مسالك ثقافية جديدة تعنى بسؤال الشرط الإنساني للوجود معرفياً وجمالياً، من خلال الاتكاء إلى سرديات مختلفة، ملحمية ووثائقية ووجودية، تنطوي على وجهات نظر مختلفة باستثمارها مفرزات ما بعد الحداثة من جهة، وانهيار فكرة الرقيب وشخصه من جهةٍ ثانية. في «تحولات الهوية في الرواية العربية»، تتبع شهلا العجيلي انهيار الهوية البيضاء لمصلحة الهجنة الثقافية عبر نموذجين روائيين هما «بابنوس» لسميحة خريس: عن كيفية سحق سياسة ما بعد الكولونيالية الجديدة للهويات القديمة المتصارعة جميعاً لخدمة مصالحها، وظهور عبودية جديدة وإمبرياليات جديدة تحت عناوين إنسانية برّاقة، و«الفردوس المحرّم» ليحيى القيسي التي تذهب إلى فضاء فانتازيا كونية في اختصار الهويات المتشكّلة عبر تاريخ البشرية إلى هويتين متصارعتين، تمثلان مرحلة ما بعد الحداثة، وهما «هوية المستحوذين، والمتمردين»، أو الصراع بين المادة والطاقة.