من أنا؟ لقد تربيتُ في وسطٍ نادر، بين العراقيات منذ الثالثة أو الثانية عشرة من عمري. وعندما أقول العراقيات أقصد الأم والصديقة والهوى. ماتت أمي في عُمان وكان عليّ أن أغادر إلى بغداد لتكملة تعليمي في الستينيات.المرأة العراقية لم تخذلني أبداً. فقد ذهبتُ صبياً صغيراً إلى حمامات بغداد العمومية مع النساء عندما كنتُ في ملجأ الأيتام في حي الطوبچي في الستينيات، وكانت المشرفات العراقيات المسؤولات عن ملجأ الأيتام يأخذنني إلى عالمٍ ساحرٍ ومدهشٍ من المياه والضباب وأجساد النساء العاريات.
من أنا؟ لكي أتنكرَ وأنكر حقائق من حياتي. لم يكن لديّ أم ولا أب، وحيداً كنتُ في وسط مدينةٍ عالية الروح في تلك الأزمان. هكذا كبرتُ وانتقلتُ إلى السعدون، وفي السعدون عشتُ حياتي مع الطلاب والطالبات في القسم الداخلي. نعم، تعلمتُ وتعلمتُ الطبخ أيضاً. لماذا وكيف؟ أن تكون وحيداً يعني أن تتعلّم كل شيء. كنتُ أذهب إلى محالّ البقالة. وقبل أن أشتري الطماطم أو الخيار أو الخُضر، كنتُ أنظر إلى أصابع النساء العراقيات، أصابع في منتهى الرهافة، تتحسّس الخُضر بدقة، فكنتُ أقلدهن لكي أعرف الجيد من هذه الطبيعة، ثم أذهب لكي أطبخ بعد أن أكون قد اشتريتُ أيضاً لحماً أو دجاجاً. كان عمري وقتها ١٧ عاماً وقد انتقلت من السعدون إلى مكان آخر، الوزيرية ثم إلى شارع فلسطين في حي العقاري القريب من الجامعة المستنصرية.

جواد سليم ــــ امرأة تبيع بضاعة (زيت على قماش، 1953).

عندما بلغتُ الثامنة عشرة بدأتُ أحب، نعم، جاذبية الصبايا العراقيات قاتلة يعرف الجميع ذلك، ليست قاتلة فحسب بل مهلكة. اسألوا الراحلين، اسألوا نزار قباني، اسألوا الزهاوي والرصافي والجواهري والشعراء الآخرين، اسألوا سركون بولص عندما يقول: «وأريد أن أعيش كل شيء ثانية»، اسألوا عن مطبعة القلب السرية التي يتحدث عنها.
هكذا فهمتُ المرأة العراقية، فلاحة كانت أم طبيبة أسنان، ولن أُخفي سراً، فقد تألمتُ مرة من سنٍّ وأخذني طالب يدرس في كلية طب الأسنان في سنته الأخيرة للتخرج، وفي قاعة طويلة فخمة رأيتُ أغلب طلاب وطالبات كلية طب الأسنان يمتحنون عملياً. يا إلهي، وقع نظري على شابة بالبالطو الأبيض، وكانت تبتسم، جمالها أخّاذ يكاد أن ينتزع روحي. من أنا؟ من هي؟ الشابة حينها كانت أستاذة ومشرفة على أغلب الطلاب والطالبات في كلية طب الأسنان. يا للروعة، لا أقول إن طلاب وطالبات الطب في مختلف الأقسام كانوا من الأريحية فحسب، بل كانوا في منتهى الجمال والمعرفة في ذلك الوقت.
من أنا؟ ومن هي؟ أنا كنتُ قادماً من قرية صغيرة في عُمان لأرتمي في مدينة بغداد الشاسعة. المدينية كانت في بغداد. وعندما أتحدثُ عن بغداد، لا أنسى العصر العباسي الذي ألهم العالم كنوز المعرفة والترجمة والشعر ومجلدات السير إلى آخره.
لكن من أنا؟ ومن هي؟ يكفي أن أذهب إلى السينما ومعي فتاة عراقية صديقة لكي نرحل مع السندباد ونحن في أماكننا. قبلاتٌ حارة والعالم مظلم والأصابع ترتعش فوق نهدين حرين، ضائعين في الظلام، وفي السينما كانوا يقدمون قبل بداية الفيلم دعاية عن بيرة «فريدة» أو «شهرزاد» أو «لؤلؤة». وكنّا نذهب إلى نهر دجلة حيث تكثر المطاعم والحانات لنشربَ قليلاً وأصابعنا متشابكة. الحياة واحدة. والبغداديات في ذلك الوقت لم يكن يلبسن العباءات والأهل لم يكونوا معقّدين تجاه بناتهن، كان الأمر يحدث بتلقائية وعذوبة بل وفرحة. هكذا عشتُ/
ألم يقل أنسي الحاج: «نشمّ أبناءنا قبل أن نلدهم». خالطتني الثقافة والفن والسياسة لكنني كنتُ شاباً حراً أختار ما يهمني وما يليق بضميري.
نعم كانت لديّ صديقات عراقيات من الأرمن والآشوريات والمسلمات؛ في النهاية كنت أعيش في مدينة بغداد، مدينة المعدن النفيس، والمقامات الموسيقية، والباليه وفرقة الفنون الشعبية والچالغي البغدادي والدوندرمة والكوجة والتكي والأفياء والحامض حلو وجبار أبو الشربت.
أليست هذه مدينة أبي جعفر المنصور والرشيد وأبي نواس؟ ألم أكن أنا من كان يشتري أسطوانات موسيقية والويسكي من الأورزدي باك وكانت سوقاً حرة، بجوازي العُماني.
من أنا؟ لكي لا أكتب في مديح العراقيات اللواتي يغضبن سريعاً ويتأوّهن في السرير ثم يرمين إليك الجوري والرازقي.
في الأخير تزوّجت من بغدادية وشممت رائحة ابنتي قبل أن تولد.

* مالمو/ سلطنة عمان

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا