الطّيْف وفكْرته الورْديّة،في مهبّ الْعينْين،
يسْتريح على متّكإ.
ساق على ساق،
البياض الصّقيل يقود كورالاً من الزّرْقة في أشْجى الْأناشيد الشّهويّة وأعْنفها.
الزّرْقة إذْ تنْفرج عنْه تحمّله وزْر الكلمات وتسْتأْمنه عليْها.
أكون، في تلْك اللّحظة، قدْ تعالتْ بي الرّوح عمّا يسيّج الْكرْمة الْمثْقلة بالنّضْج وإليْها تهاويْت بجوعي.
أكون قدْ تعالتْ بي فوْق سماء البحيْرة فلهجْت،
عطْشان،
بآياتها.

ماحِي بِنْبِينْ ـــ بدون عنوان (شمع وخِضابات على خشب، 2020)

أكون:
الضّيْف الطّارئ تنْهشه الهواجس،
جوّاب آفاق تائهاً انْتهى إلى موْطنه،
عرّافاً تراءتْ له الْأسْرار الشّهْوانية منْ خلْف الحجب،
ناسكاً يشْقى بيْن الرؤية وغضّ الطّرْف.
■ ■ ■
فمها معْبر الشّهْقة،
ضاقتْ نظْرة في عيْنيْن واسعتيْن.
مرجّح أنّ عسلاً معتّقاً يشكو
وأنّ لساناً يبادله الشّكْوى.
إنّه الصّمْت،
شفيع الشّهْقة وخديمها وواهب امتدادها في الْمسامع.
إنّه هو،
صمْت بألْف طبْل يخبط،
صمْت بألْف جرس يقرع.
ولئنْ كان للْمبْصر آفات الْآفاق فللْأعْمى فضائل الانْتظار.
قلْ لي، إذنْ، ما تيسّر لك من الْجوْهر أيّها الغرْبال
إنّي لأشدّ حيْرة أمام الْكلمة الْعزْلاء منّي أمام الْكلمة الْمحْروسة في الْمعاجم.
هلْ تسْمع؟
لقد انْعطفتْ بالعزْف جهة الهلاك تلْك الْأصابع.
أيّها الأخْرس،
هلْ تسْمع؟
■ ■ ■
منْ على سطْح،
واقفاً،
أكْتب مطلاً على الْقيعان.
وكأنّ الجهات اكْتظّتْ بعيون مطفأة تشتعل في عيْنيْك.
■ ■ ■
يا جدل النّور والظلام في معترك خفيض ثمّة النّقيض لهما معا ضنّتْ به الطّبيعة علينا جميعاً وأبْقتْه مغلقاً في الْأعالي، وإنّي لأسْتلّ حرفاً تلْو حرف من معجمها السّرّي وأرتقي عابثاً بتركيب كلمة تكون مفتاحي إلى قفله.
في هاتين العينين تُرمى الأحلام وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة،
يا للعينين المقبرتين.
فقْ أيها الميّت قبل أن ترْفع أكثر من صلاة باسم الإلهة الطينية ويرفع أكثر من سيف لاغْتنام وحْيها.
دمك غال بيْد أنّه الرخيص لوْ يراق على هذا المسْلخ التّنكّري.
فلْيكنْ ليْلي ليْلاً طويلاً
لا يلوّح فجْره لغسقه.
■ ■ ■
بعد العاصفة
في عبوره الْأخير
تباطأ الطّيْف.
كان منْهكاً،
وسعيداً بالذي في انْتظاره.
اقْتسمْنا اللّيْل
مجفّفاً منْ معْنى الزّمن،
اقْتسمْنا الْكهْف
مجفّفاً من معْنى الْمكان.
■ ■ ■
انْتفى السّيّاق
وارتفع الوجود عنْ جذوره.
في الْفراغ،
بغيْر حبال،
أعْقل الْآن ما لا يعْقل.
■ ■ ■
يذْهب الْعطْر،
في دغْدغة الذّاكرة،
مذْهب الكتاب الْقديم.
تذْهب النّظْرة مذْهب النّار في الْهشيم:
كيْل الثّناء للْهشاشة
والتّنْكيل بها.
■ ■ ■
يغْنيك الْجزْء،
في ميتافيزيقا الْوجْه،
عن الْكلّ.
لقدْ مرّوا خفافاً،
وحْدك كنْت مثْقلاً بالْعجْز عنْ فهْم الذّهب.
■ ■ ■
أتيْتك
منْ جهة ما الْتفّ،
غارقاً في النّعومة،
حوْل نفْسه.
له فتن ناعمة
ذاك الْمعْدن.
طمعْت في لعْنة
إذْ نقرْته بحرْف.
طمعْت في تبعات صحْوها إذْ صرخْت،
عارياً،
في عرْيها.
■ ■ ■
حفرْت نفقاً إليْك،
يقْتفيني الضّوْء.
لا سماء، لا جناح، لا هيولى رخْوة،
لا غيْم نازح،
لا مناطيد تحْت رحْمة النّار والْهواء.
إزْميل يكْتب الْباطن على الظّاهر،
يدان تعْصران عنباً بيْن الصّحْو والْغيْبوبة.
■ ■ ■
ما شأْن الْمعْدن بك؟
ما شأْنه بي؟

منْ سقْف النّفق تقطّرتْ،
على مهْل،
لغتي.

ما الْعرق منْ غيْر ملْح؟
ما اللّذّة منْ غيْر جرْح يئنّ تحْت سطْوة الشّموس؟
ما الْحفّار الشّقيّ منْ غيْر تعب ينْتهي ليبْدأ؟
■ ■ ■
أنا شبح متفحّم في تلْك اللوحة.
رحيمة تلْك النّار بعواطف المتأمّلة وحْدها.

خطْوة في العدم،
قال الصّوفيّ،
بألْف في الْوجود.
نظْرة في التّميمة،
أقول،
بألْف في الفراديس جميعها.

يذْهب الْعقْل ويجيء في دهْليز،
ألْف باب تقابل ألْف باب.
يذْهب الْعقْل صارخاً:
إنّ الْأبْواب تشابهتْ عليّ وتشابهت الْمفاتيح
وتفاقم خلافها.

يذْهب صارخاً
ويجيء كاتماً أنْفاسه.
■ ■ ■
أرى كلّ شيْء؛
النّافورة
والْماء الّذي تحاشته الْمعاجم
وتكفّلتْ به
الْمروج
والْأوْدية
والْمنْحدرات.
أرى الطالع إذ تقرؤه الغيمة قصْداً
وتنْكره اعْتباطاً.
أرى النّار تخْرج منْ فم مع التّراتيل.
أرى النّظْرة اللّيّنة الْمصْهورة الْحامية يسْتكين لها الْقالب.
أرى الشّكْل الْأخير،
تحْت الْمطر،
للرّوح في كامل عرْيها.
■ ■ ■
كأنّ شيْئاً لمْ يكنْ.
وشْوش لي المساء
بالّذي سأوشْوش به للْفجْر.
إنّها تنْظر وكفى،
كان عليْها أنْ تكفّ عن التّدلّل للْهاوية
تلْك الذّرْوة.
تدْنيك الطّبيعة الْخضْراء منْ مخْزن أسْرارها
وتبْعدك.
كفّ عنْ أنْ تكون رسولها إلى أطْرافها النّائية الْجرْداء.
■ ■ ■
ليْس هناك غير الذي هنا.
وإذْ ينادى عليْه،
منْ أعْلى،
يرْفع المتسكّع الضّالّ يده
وإذْ تعْميه فتن التّمائم
يقْرأها في الظّلمات بمثْل ما قرئتْ به في النّور.

تكرّر النّبْض
باخْتلاف النّظرة،
تكرّر انْتصاب الطّيْف في المهبّات
واخْتلفتْ صفاته؛
فهْو الْقديم في الزّرقة
و المحْدث في الصّفْرة
والوارث في الْحمْرة
والْمعْدم في الْخضْرة.

منْ يجْري مجْرى الْقطْرة في مجْراه؟
يصْفو في ليْله
و يرْتبك في صبْحه،
يشْهد عواطفه على نفْسه
ويؤلّبها.
يشْقى
ويشْقي
يؤْتى الْملكوت
ويزْري برعاياه،
ما أنْقاه في السّريرة،
ما أدْنس صلواته.
■ ■ ■
اذْهبْ،
مثخناً بالْقلق،
ستنْتهي مثخناً بالرّضا.
جادل الطّيف في قلقه،
تكلّمْ له فيه:
ليْس قديماً
وليْس محْدثاً،
ليْس يرْقى،
ليْس ينْزل.

جادلْه باللّسان،
بالْعيْن،
باللّمْسة.
جادلْه،
جادلْ يقينه بورْدة الشّكّ.
وإذْ تشْكل عليْه الزّرْقة
دلّه على الصّفْرة،
تلْك الّتي منْ قمْح براريه.
قلْ له ما يرْوى للْيائسين،
في النّفق الْمغْلق،
عن الْجهات الْمشْرعة.
■ ■ ■
Qui n›aime, aux jours de la canicule dans les bois, lorsque les geais criards se disputent la ramée et l›ombre, un lit de mousse et la feuille à l›envers du chêne? [Aloysius bertrand: Gaspard de la nuit]
بلْ وتشْتهي فيها،
أيّها الْمتفيّئ،
مماتك وتزْدريه.

دوّن الْعصْفور الْأزْرق حشْرجاتك
ولسوْف يطير بها منْ شجرة إلى شجرة
ولسوْف تنْجيه منْ فخّ الْوجود
وتوقعه في فخّ الْعدم.

أمّا الْقيْظ
فله الْمساء الْبارد دليل الظّلْمة الْأبْرد إليْك.

يحْفر قبْرك،
تحْت الْأهازيج،
في معْبر لا يرى بيْن الْقيْظ والظّلال.
عمّقوا الْحفْر،
تقول،
إلى ما دون الْجذور
فليْس لها ديْن عليّ،
حيّاً أو ميّتاً،
تلْك الشّجرة.
■ ■ ■
لمْ يشأْ،
ألْويسْيوس،
أنْ يسْعى لأكْثر منْ ميْتة في الظّلّ.

في اعْتقاده:
الممْكن شبْر في السّماء
والْمسْتحيل ميْل في الْأرْض.

نفض يديْه منْ تراب
وأطال النّظر إلى الْفسيلة:
مرْعوبة أنْت منْ عطشك الْقادم
وأنا منْ عطشي الْقديم.

كان له متّسع آخر ليتهجّد في صمْته
ويطْرق إطْراقة الْمعْتكف على غسْل روحه في الْكهْف.

* الجديدة/المغرب

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا