(إيكاروس) *

عندما يصعد هلال أوت
سأكتب فوق السّطوح
مطلًّا على المقابر وأشجار البرتقال
فقط لأنّ الحروف أكبر من هذا الليل

غابرييل فِيرْيِي ــ «راعية قُطعان فَتِيَّةٌ من الجزائر» (زيت على قماش، 1913.)

عندما يصعد هلال أوت ارفعي حاجبيكِ إلى أعلى
فأنا ذلك الهلال الذي يصعد فوق سرّتكِ
في أعلى صدرك أيّتها الرّاعية حيث حمّالة النّهدين
شيء ما يحمل ثقل سنوات يتمكِ
راعية ماعز بريّ
تجري فوق رمال البحر مع الأصدقاء الملاعين
تلعب معهم لعبة غامضة
وصدرها تأكل منه القطعان
تشرب سجائر فاخرة وقوارير آتية من البحر
تركب سيّارات يكتريها زناة الصيف
وجيوبهم مليئة بأقراص تُهرّب وراء التّلال
■ ■ ■
كنت بأنفك الأحمر المعقوف
غاضبةً من شكوك شجرة التّين في ثمراتها
هل تشكّ شجرة تين بجنونها صيفاً؟
■ ■ ■
عندما نظرتُ مساءَ أمس إلى أعلى
كنت أتلمّس هلالكِ بأصابع يدي اليمنى
فوق الهلال مباشرة كانت يدي اليسرى
تمسك النّهدَ الأيمنَ لصديقتي الخارجة
من أغنياتٍ مليئة بغبار المراثي
حيث الحقول ذات السّنابل المتنهّدة
والـطّبشور الذي يلفع أصابعها وأنفها وخدّيها
وهي خارجة من حصص الدّرس
■ ■ ■
آه يا راعية الماعز التي مزّق قلبها سيف غامض
يا راعية الماعز البرّي
ارفعي رأسك يا صاحبة الشفتين الحاقدتين
واضربي جبهتي حتى تينع أزهار أُرسلها إليك في سلال الصيف
ضعي نهديك فوق قمر منتصف أوت
واتركي الرعاة الطيبين يغنّون أغنياتهم لدى العودة
مصفّرين بعصيّهم وراء قطعان الماعز البرّي
لأنّ ذئاب الجبل ستنزل بعد غروب الشمس
■ ■ ■
عندما وصل البحر كانت النسمات تضرب خدّيه بلا رأفة
تضربهما من نوافذ العابر الأزرق
الأشجار عالية يا إلهي
فكيف استطعتَ أن تجعل في كل عين شجرة صفصاف
وكيف نسجت من عينَي راعية ماعز شجرتَي صفصاف باذختين؟
■ ■ ■
عندما راوغتُ الشمس ومسحتُ بيدي على جبهة عريضة من الضّوء
كان ريشها ينثر مياهاً عذبة
أضعها في قلال خضر على ظهور العذارى
■ ■ ■
في الرابع والعشرين من جويلية
وقد هتفت لعينيها: «أنت مالكة الضوء»
كان صوتي غضّاً مثل إسفنجة بين طحالب البحر
لكنّي سمعتُ حفيف أوراق ورائي
طقطقةَ عظام تحت ساعة كبيرة تمزّق نشيد العصافير
وشيئاً من سقوط مياه فوق رؤوس سكرى في الشارع الرئيس
قلت: فلأبدأ من البحر أوّلاً
فقفزت مثل أيّل بين أشجار عالية
- تلك أعشاشها يا إلهي
■ ■ ■
عندما وصلت كنت أمشي على ساق واحدة
بين شارع «أبي فراس الحمداني» و«عمر بن أبي ربيعة»
حالما دخلتُ مقهى الصفصاف ارتجّت عظامي
شيء ما جعلني أشفق على جمل قديم بسنامه الأبيض
- هل رأيتِ جملاً أبيض يا راعية الماعز البريّ؟
جملاً أمام البحر؟
■ ■ ■
رأيتُ «إيكار» يشرب شاياً أحمر بالنعناع
ومياهاً خالية من النّدم
يشرب البرق تحت قبّة خضراء مضمّخة بعطر الأشجار
■ ■ ■
في محفظتي السّوداء التي غصّت بدموعها
وبأوراق الأصدقاء اليتامى
لم أضع فوق رأسِها سوى قرنٍ لوعل
ولم أمنح يديها سوى شمس فارسية
■ ■ ■
مرّ رمح أبيض مسرعاً
عندما اخترقت وردة غبار قلب «إيكار»
هنا قرب طاولتي الوحيدة
كلمات قذرة تمرق من نساء خشبيّات
ورجال معقوفو الأنوف يدخّنون سجائرَ كثيرةً
ويشربون شاياً شبيهاً بشاي البنّائين وجامعي أحطاب الغابة
في الطاولة الأخرى امرأة سمراء
تدخّن شيئاً من سنواتها الضّائعة بين صديقين عابرين
وسط كوكبة كبيرة من أعواد الكبريت
لا يعنيهما شيء من إكليل الغار على رأسي
لا يعنيهما سوى نحلة طال انتظارها للسع أصابعي
سأضع ساقين طويلتين في البحر
ستلتهم سمكات أصابع قدميَّ
اشتهاها عابرون فوق طاولة كبيرة مرصّعة بالنّبيذ
***
بعد أن سقطتُ من بناية عالية قبالةَ البحر
كانت أشجار لوز تُصلب هناك
كانت راعية الماعز تنطّ كعادتها فوق قلبي
مغتبطة بالماء وغاضبة من البرق الذي يضرب فجأة
أجساداً عارية تنبح تحت الموج
وأخرى تموء فوق الرمال المدعوكة بأرداف النساء
لم أضع ساقيَّ في الماء
لكنّي وقفت لأداء تحية عسكرية
للموج السريع الذي دفعه الهواء بلا شفقة
أربعة رجال آسيويّين كانوا قد أكملوا دورتهم
تحت الماء بأجسادهم الصغيرة وعيونهم الضيّقة
ثم طاروا نحو الأعالي
وضعت سمكتيْن فوق طاولتي
واحدة سمراء تلبس أوراق أشجار التوت
وأخرى لها نهدان مجروحان بشيء أسود لم أستطع لمسه
■ ■ ■
كان «إيكار» وسط قطيع من الماعز البري
قد أضاع غزالاً مجروحاً
غزالاً يئنّ تحت ضربات الشمس
شيء ما أعمى قاده نحو مياه وصخور
حيث الفتيات المترنّحات
عندما كان يصعد إلى الأعالي كانت المياه تنزّ
رمل أبيض التصق بحذائه
سيضعه بين كفَّيْ راعية ماعز
بعد أن اقتطع تذكرة للماء
كانت صبيّة تشرب «الكوكا» في محطة الميترو
وشجرتان سمراوان تشربان المطر
* تونس العاصمة