1. دار جدي على الحدود التونسية الجزائرية. في مثل هذا الوقت تكون البيوت دافئة جداً، إذ لا تنطفئ النار من الدار في الفصول الأربعة، ومن الفجر حتى آخر الليل.. تكون جدتي عادة تُسَبِّح أو تتذكّر أبناءها البعيدين. وتمشّط شعرها الأحمر الطويل.لا أحد يتذكر أن جدتي أو خالاتي قصصن شعورهن إلّا أثناء موت أقرباء؛ فهن يقطعن ذؤابات فقط، لأنهن، كما تقول جدتي، سَيَسْتَضِئْنَ بضفائرهن الطويلة في العالم الآخر.
في دار جدي دائماً سلحفاة قرب الباب، ودائماً هناك قطط تنام دافئة وتَتَشَمَّمِ، في دعة وخيال، الروائح المنبعثة من الحطب.

نوزد شيخاني ــــ «أمازيغية» (فوتوغرافيا، 2018)

قشور رمان وأوراق زيتون وبيض حجل وجذوع فطر وحب ملوك مضى عليه الصيف وزهر تين بربري وبقايا خفاش، تقول جدتي إنه يُجْلِي العين ويجعلنا نتبصر موتانا في أحلامنا.
تستمدّ النار قوتها من جدتي التي تراها تجلب الخير والبركة إلى البيت، إذ لا أحد يمكنه أن يعرف أكثر من امرأة ولدت في حاضرة تونس، وبالتحديد في دار بن عبد الله، لتتزوج طالباً زيتونياً في ثلاثينيات القرن الماضي.
****
2. كل صباح من شهر ديسمبر، أو كما نسميه دجمبر، وهو من أشهر الحب والدفء والماشية التي تنام هانئة وراء بيت القبو، تتصاعد روائح الخبز المخلوط بالزبيب والإكليل، لتغير نكهتها مع كل شهر جديد.
في أحواض صغيرة كانت خالتي تزرع الفيجل والخزامى والكسبر، وتغطيها في الليل حتى لا يدميها الصقيع ويحرق سيقانها الضئيلة. هناك رداء قديم يرمى فوق الأحواض بألوان ذهب الزمان، برونقها تذيلها حواشي مفضضة؛ فنحن نعتقد أن الذهب يليق بالإخصاب، ولا يُرى إلّا في الأعناق والحجور؛ أما الفضة فهي وتد الأرض وأخت النحاس. ولا بأس من وضع الفاكهة والماء تحت هذه الأواني مقلوبةً، لأن التراب سريرنا الوثير. أما الأواني الخشبية، فهي للأكل الحار الذي يثير الحواس.
في ديسمبر، حكايات تبدأ عادة بين رجل تجاوز الثلاثين وامرأة مشرقة، يلتقيان في مأتم هناك قرب القالة بالجزائر، ثم يكملان التلاقي في بيت جدي حيث المَنْسَجُ لا يُرفَع ما دامت جدتي على قيد الحياة.
يَتَلَفَّعُ الرجل ببرنس جدي تيمّنا بطول العمر وتجلس المرأة لتغزل الصوف: لا فرق بين من فارقت مقاعد الدراسة باكراً وبين من أتمّت تعليمها الجامعي، لأن الصوف ستر ودربة على الصبر، وليس في دار جدي نساء يَمْتَهِنَّ الشكوى أو يسهدهن ليل الشتاء لتشرب الأرواح دموعهن في الظلام.

* تونس العاصمة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا