لا يمكنني الحديث عن ذكرياتي مع «معرض القاهرة للكتاب» من دون التحدث عن ذكرياتي مع الكتاب نفسه. فأنا من جيل عرف الكتاب منذ الطفولة، بعضنا عن طريق مكتبات أسرته، والغالبية العظمى منه عن طريق ما وفرته الدولة في حينه من فرص الاقتراب من الكتب والتشجيع على القراءة.
فبرغم نشأتي الريفية، إلا أن احتكاكي بالكتب وقربي منها بدأ في وقت مبكر جداً، ربما في نهاية خمسينيات القرن الماضي عندما التحقت بمدرسة قريتي الابتدائية. لن أتحدث عن فرص الاقتراب من الكتب باعتبار أنها كانت متاحة في المحيط الأسري، ولكن الدولة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانت تتيح تلك الفرص على أوسع نطاق.
أتذكر أن كل فصل من فصول المدرسة الابتدائية في ذلك الوقت، كانت فيه مكتبة صغيرة في صورة صندوق خشبي معلق في أحد أركان الفصل. ومن يتم انتخابه رائداً ثقافياً للفصل، يحتفظ بمفتاحه ليعمل على إتاحة الكتاب لأي تلميذ يرغب فيه، وكنت واحداً من هؤلاء الذين انتخبوا لتلك المهمة الصغيرة في مبناها الكبيرة إلى حد لا يصدق في معناها. وكانت مكتبة فصلي وأنا في الصف الرابع الابتدائي في مدرسة المقاطعة الابتدائية، تحوي مجموعة من الكتب أتذكر منها قصة «أبو الهول يطير» لكاتبنا الكبير الراحل محمود تيمور، وكتباً أخرى معظمها من تأليف كتّابنا الكبار الذين كانوا يكتبون للأطفال في سنّنا.
بالطبع، كنا في ذلك الوقت ننظر إلى مكتبة المدرسة التي تحتل واحداً من فصولها المتسعة، نظرة ملؤها الرهبة والإجلال. وكنت وأنا أزورها كل يوم تقريباً، أنظر إلى الكتب التي تحتل أرففها نظرة من يقترب من شيء مقدس. نشأت في ذلك الوقت أول علاقة لي مع مسؤول ثقافي هو الأستاذ صلاح زعرب الفلسطيني الجنسية، أمين مكتبة المدرسة باعتباره موظفاً رسمياً في وزارة التربية والتعليم. وكان مهاجراً فلسطينياً وقت كانت الدولة تعامل المهاجرين الفلسطينيين معاملة المصريين سواء بسواء. فإذا أضفنا إلى هذا أن السياسة الرسمية للدولة كانت تتيح للجميع فرص الاقتراب من الكتاب، فإننا سنفهم على الفور كيف أن المجلس القروي لقرية مثل قرية المقاطعة القابعة في عمق الريف في الدلتا، كانت له مكتبة عظيمة استؤجر لها بيت من بيوت القرية ليكون مكتبة ومكاناً للقراءة. في تلك المكتبة الرائعة، قرأت كل أعمال كاتبنا الأكبر الأستاذ نجيب محفوظ وأنا تلميذ في المرحلة الإعدادية.
لما انتقلت إلى المدرسة الإعدادية، عرفت مكتبة المدرسة الكبيرة التي أتاحت لنا فرصة الاقتراب من أنواع مختلفة من الكتابة لكتّاب كبار مثل توفيق الحكيم، ومحمد فريد أبو حديد وغيرهما. ولن أتحدث عن مكتبة مدرسة أحمد لطفي السيد الثانوية في مدينتنا السنبلاوين. ويكفي أن أشير إلى أنني قرأت في تلك المكتبة العامرة العمل الضخم «الكوميديا الإلهية» لدانتي، وتعرّفت إلى الأعمال الكبيرة المترجمة، على مستوى الأدب والثقافة بوجه عام. وإلى جانب هذا، كانت مكتبات الأحياء قائمة وكذلك تلك المعارض الصغيرة التي كانت تأخذ مكاناً لائقاً على أرصفة محطات القطار وعند مداخل محطات الباص وغيرها من الأماكن التي كانت ترخص بها البلديات وهيئة السكك الحديدية ومختلف الإدارات.
إن دولة كتلك التي نشأنا في رحابها في ذلك الوقت، كان لا بد من أن تفكر في إقامة حدث ثقافي أعم وأشمل هو معرض للكتاب على مستوى القطر كله، بل على مستوى الأقطار العربية باعتبار أن مشروع القراءة كان مشروعاً قومياً بحق.
أول زيارة لي لمعرض الكتاب كانت في مطلع سبعينيات القرن الماضي. وقتها، كانت سياسات الانكفاء التي انتهجها أنور السادات لم تؤت أكلها بعد، وكان المعرض يقام في أرض المعارض القديمة في الجزيرة قبل انتقالها إلى مقرها الحالي على مشارف مصر الجديدة ومدينة نصر. لا أزال أتذكّر رفاقي في تلك الزيارة، صديقي الأقرب الدكتور أحمد جمال الدين موسى، الذي كان طالباً في كلية الحقوق، وصديقي أحمد عبد الحفيظ المحامي والسياسي الناصري، وأصدقاء كثرين أتذكّر وجوههم وانبهارهم بالكتب، ولا تسعفني الذاكرة في استعادة أسمائهم. يقود ذلك الركب العظيم رائد جماعة التذوق الفني والموسيقى في كلية الحقوق الأستاذ الدكتور فؤاد عبد المنعم رياض الذي تعلمنا على يديه كيف نتذوق الأعمال الموسيقية الكلاسيكية.
شكّل سور الأزبكية معلماً خطيراً ورائعاً في تكوين وجدان وعقول جيلنا

في تلك الزيارة التي لا تنسى، ابتعت أول كتاب لي من أعمال الكاتب اليوناني العظيم نيكوس كازانتزاكس، وكذلك أول كتاب من أعمال أندريه جيد، وأتاحت لنا الترجمات الرائعة التي كانت تقوم عليها مكتبات الشرق السوفياتية شراء كتب فخمة من أعمال تولستوي، وتشيكوف، وبوشكين، وغوغول وغيرهم من الكتّاب الروس العظام، ناهيك بالترجمات الرائعة للكتب السياسية التي تتولى بالشرح النظرية الماركسية وتطبيقاتها في الاتحاد السوفياتي ومختلف البلدان الاشتراكية. حظيت في تلك الزيارة برواية الكاتب العظيم إيفو أندريتش «جسر على نهر درينا»، قبل أن تتولى هيئة الكتاب طباعتها، وبالطبع لا يمكن التغافل عما قدمته «مؤسسة الأهرام» من خلال جناحها من أعمال وترجمات أثرت العقول والقلوب ولا تزال.
لكن نهاية الستينيات وبداية السبعينيات في القرن الماضي لم تكن لتمر من دون أن يشكل سور الأزبكية معلماً خطيراً ورائعاً في تكوين وجدان وعقول جيلنا. فمن سور الأزبكية، حظيت بأول طبعة من الأعمال الكاملة لكاتب روسيا العظيم فيودور دوستويفسكي التي ترجمها المثقف السوري العربي العظيم الدكتور سامي الدروبي، الذي ترجم أيضاً أعمال أندريتش وكازانتزاكس ومحمد ديب والفيلسوف الفرنسي العظيم هنري برغسون.
وبرغم انكفاء دولة السادات وانسحابها من معظم المشروعات القومية التي تهدف إلى تربية وجدان وعقول الشعب العربي كله وفي طليعته مصر، إلا أن معرض الكتاب في القاهرة ظل قائماً يعاند الزمن، ولم تفتني زيارته إلا مرات أقل من عدد أصابع اليد الواحدة. تحول المعرض بفضل المثقفين المناضلين إلى فعالية ضخمة تحظى بأجواء احتفالية كبيرة من ندوات ولقاءات ورفقة شكلت وتشكل وجدان أجيال متعاقبة، باعتبار أن معرض القاهرة لم يعد معرضاً للكتاب وفقط، بل صار عنواناً لدولة وشعب ونخبة عملت وتعمل على أن تكون القاهرة منارة عالية ودليلاً على حضارة ومدنية دولة كبيرة أتاحت ذات يوم لشعبها ولمختلف الشعوب العربية فرصة الانضمام إلى العالم المتحضر الذي يشكل الكتاب معلماً رئيسياً من معالمه الكبرى.
وتظل دور النشر اللبنانية بدوام مشاركتها في هذا المعلم الثقافي الحضاري الكبير رائدة في الحضور والتحقق، وإشباع أرواح المصريين والعرب بأعمال مختارة بعناية، وإطلاعهم على ثقافات متنوعة يعرف من خلالها القارئ مدى التنوع الذي يجعل من العالم مكاناً للوجدان والعقل برغم كل الحروب والآثام التي تندلع وترتكب هنا وهناك.

* روائي مصري (1953) مقيم في مدينة المنصورة، من أعماله: «جمهورية الأرضين»، «أجندة سيد الأهل»، وخماسية «ملحمة السراسوة». حاز جائزة «ساويرس» عن الجزء الأول من الخماسية بعنوان «الخروج».