يطبع عماد أبو صالح (1967ــ مواليد مدينة المنصورة شمال مصر) دواوينه طبعات محدودة، على نفقته الخاصة ويوزعها مجاناً على أصدقائه منذ «أمور منتيهة أصلاً» (1995)، و«كلب ينبح ليقتل الوقت» (1996)، و«عجوز تؤلمه الضحكات» (1997)، و«أنا خائف» (1998)، و«قبور واسعة» (1999)، و«مهندس العالم» (2002)، و«جمال كافر» (2005) وصولاً إلى «كان نائماً حين قامت الثورة» (2015). هنا وقفة عند تجربته الشعرية في مناسبة حصوله على أول جائزة منذ أن بدأ الكتابة، إذ نال أخيراً «جائزة سركون بولص للشعر وترجمته للعام 2020» (3000 دولار) على قصيدته الحرّة «غير العروضية، رغم أن بعضهم يدعوها قصيدة نثر، عن جهل أو تماهياً مع روح القطيع. قصيدة أخذت إيقاعها الخاص، لغة وموسيقى وبساطة كتعبير عن ذائقة جديدة، ذائقة معبّرة عن دقائق الحياة اليومية، مبيّنة لنا المصائر البشرية وهي تهتزّ معلقة، بصوت خافت أقرب إلى الصمت أو التلاشي» وفق ما جاء في بيان الجائزة التي أطلقتها «منشورات الجمل» عام 2017. وتابع البيان أنّ قصيدته «مترفعة عن السائد في لغة الشعر اليوم، وفي إطلالة تذكّرنا بإطلالة محمد الماغوط في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، مبتعداً عن طلب الشهرة والانتشار، مكتفياً بالظلّ الذي يقيه شمس الظهيرة. وأيضاً متجنّباً قدر المستطاع، كلّ ما يمتّ إلى القضايا الكبرى، فشعرهُ هو شعر الانهمامات الصغيرة التي هي مكوّن حياة الفرد اليوم وفي كلّ وقت».يبدو الخطاب الشعري لعماد أبو صالح صاحب قدر كبير من الخصوصية، فهو صوت شعري رائد ومؤسّس ينطلق من تصورات جديدة ومفاهيم خاصة به للشعرية. تتأسس لديه جماليات جديدة نابعة من ذهنيته وتكوينه ومنطلقاته التي هي نتاج تصوراته الجديدة وممارسته الشعرية التي تعكس قدراً كبيراً من المغايرات بما يجعله أقرب لأن يكون نقلة إضافية أو مرحلة جديدة من مراحل الشعرية العربية الجديدة. بل يمكن القول بأن هذا الخطاب الشعري قلب معادلة كون النص السردي أو الروائي تحديداً قادراً على احتواء جماليات النصوص الأخرى والسيطرة عليها، فجعل عماد أبو صالح النص الشعري قادراً على الهيمنة على جماليات السرد مع الاحتفاظ بخصوصية القصيدة وحدود النوع الشعري. إنه ربما الصوت الشعري الأبرز الذي كان قادراً على أن يجعل من النص الشعري مسرحاً وسرداً روائياً وقصصياً ونصّاً فصيحاً قريباً من العامية والأمثال الشعبية. بدا النص الشعري لديه حسب تقديرنا كما لو أنه عالم متّسع لا يمكن أن يكون محدوداً أو محاصراً في فهم أو تعريف أو إحساس بعينه فيه شيء من الصرامة، بل يمكن القول بسهولة إنه قد دخل إلى الشعر من روحه أو من أوسع مساحاته وهو جوهره لا شكله. لم يكن مقيداً في أي مرحلة بأي قيود شكلية أو مظهرية للشعرية، بل يبحث عما يمكن تسميته بشعرية المعنى، وهي التي في الغالب يكون لها مظاهر شكلية تأتي تالية وبشكل طبيعي. والحقيقة أن موقف عماد أبو صالح من التجديد في الشعر العربي، ربما يكون الأكثر راديكالية وإصلاحاً جذرياً أو ربطاً جوهرياً بقصيدة النثر في العالم، لها ارتباطاتها بروح الثقافة واللغة العربية، ولكن منطلقاتها كافة إنسانية وعالمية. والحقيقة أن نصوصه الشعرية بحاجة إلى كثير من البحث في أبنيتها وتراكيبها وصورها والبنية الكلية للنصوص والتشكيلات والأنساق الحاكمة لعناصر اللغة كافة من الأصوات والتراكيب والمعجم وأشكال الإيقاع والأساليب الإنشائية وشعرنة السؤال وتقاطع المشهد السردي مع الأخبار والأقوال والجمل الإنشائية الخالصة أو اللغة الصاخبة الخطابية في بعض الأحيان. لكن تبقى المقولة الرئيسة التي تنطبق على شعره هي أنه بدأ من جوهر الشعر ومعناه، ولم يكن يبحث عن الشعر بقدر ما انفتق من دون إرادة منه أصل الشعر وأساسه المتمثل في شعرية الحياة وشعرية المعنى وشعرية التنوع وشعرية التفاصيل الحياتية اليومية والمشاهد الإنسانية العابرة التي أحسّ فيها كلها جمالاً وقيماً أدبية من نوع جديد ومختلف، فتمكّن من النفوذ إلى شعرية كل ما هو هامشي، ويبدو مهملاً أو متروكاً أو ضعيفاً أو ليس ذا معنى. بحث عن كل ما هو حقيقي وإنساني ومؤلم وموجع أو على النقيض كل ما هو مصدر سعادة حقيقية أو يشكل جمالاً ما في هذه الحياة. تبدو الذهنية الشاعرة لدى عماد أبو صالح منشغلةً بكل مهمل وبخاصة المتروك والمشرد في الشوارع والأرصفة وفي المناطق المعتمة من الحياة وكل ما هو منزوٍ وهناك غفلة عنه، ذهنية شاعرة ترى القرب والامتزاج الكبير بين النجوم والأقمار والشمس وبين القطط والكلام والتراب والحصى وكل ما قد يبدو أرضياً أو حقيراً أو هيناً أو حتى غير مرئي. يساوي بين مشاعر المجنون المشرد وبين الفيلسوف والفنان والشاعر التائه في دروب المتعة العقلية وحدائق المعنى، فكأنه لا حدود ولا تصنيفات، فهو يتمرد عليها جميعاً، ويتمرد على العالم ببنيته، يتمرّد على الحدود النوعية، فيجادل ويناقش الشعراء والنقاد في مقولاتهم ويرى القصيدة أو يحسها عالماً أوسع من أن تكون لها هيئة أو شكل أو سمات يجب أن تكون غالبة. ولهذا نجد أن التناص لديه مختلف تماماً، يختلط فيه التاريخي بالعلمي بالصور الشعرية الطريفة أو بالبلاغة التقليدية أحياناً، ويمزج كل هذا الذي قد يبدو متنافراً حتى يصبح بعد هذا الامتزاج نسيجاً واحداً في غاية الالتحام، كما لو أنّ النص يجب أن يكون هكذا ولا يمكن فصل أي شيء من عناصره.
يقتبس اقتباسات طويلة من شعراء أو يسرد بعض حياتهم أو يفتش في التاريخ والحكايات القديمة وينقل من الروايات أو يستعير مقاطع من كونديرا أو أسماء آخرين من الروائيين، ويناقش طرائقهم وأساليبهم أو يستعرض في قصيدته نصاً روائياً يقرأه. في النهاية، يشعر المتلقي لقصيدة عماد أبو صالح أن النص الشعري عالم شاسع وحافل بالمغامرة. نصّ هو مزيج من السرد والمسرح والحوار والقطع والسرعة والبطء والتأمل، ويبدو أنه قادر على مفاجأة القارئ على الدوام. يفاجئ في صراحته ووقاحته أحياناً، يفاجئ في مثاليته، ثم ينقلب فجأة أخرى إلى حال من البربرية والبدائية والانفلات إلى رحابة التاريخي والأسطوري والغرائبي، ويخوض في المستقذر أو ما اعتاد الأدب عن أن يترفع عنه في نظرات الكلاسيكية. يخوض في كل مجالات وأبواب القول من دون قيود ولا أي دافع آخر غير التخفف من أعباء المعنى الضاغط على الوجدان والمخيلة والشعور. فهو يريد أن يستفرغ ما بجوفه وما يؤلمه كأن ذلك كله يحدث بشكل قهري، فالشعر يقول نفسه عبره أو على لسانه. يغوص في حيوات الشعراء العالميين ويتجول في القارات والبلدان ويقارب الإنسان بشكل مطلق في أحواله كافة، فالممثلة الألمانية لا تختلف كثيراً في القيمة عن أمه، والشاعرة الشهيرة صاحبة نوبل لا تختلف عن قطة يراها على الرصيف، والشاعر المشاء الذي تشرّد في العالم وتجوّل في القارات والكلام ودروب الحكمة لا يقل عن مريض طردوه من المستشفى من دون أن يكملوا رتق بطنه بعد الجراحة، والطائرة الحربية لا تختلف عن العصفور الذي يحن إلى عشه، وهكذا في تجوال في أركان الوجود وبين موجوداته وأشيائه وعناصره وفق نسق تحرري أو يبدو منفلتاً من الأنساق التقليدية. ينفلت من المثالية نفسها التي تبدو في كثير من الأحيان غايةً كبرى، ويهفو ويسقط في مساحات من التردي تبدو طبيعية أو منطقية أو مألوفة للطبيعة الإنسانية التي هي في الأساس متشكّلة من النقص والعوار.
يوظف عماد أبو صالح اللغة الشعبية والأمثال والأغاني واللهجة العامية والأخطاء اللغوية وكل ما قد يبدو حقيقياً أو جوهرياً من عناصر الحياة، حال من العشق الحرام أو الذي يبدو حراماً من وجهة نظر ما هو في الحقيقة حال من الشعر، ويرى جمالاً ما كامناً في القبح والقسوة والدم والعنف، ليكون واحداً ممن تمثّل بشكل طبيعي مقولات ما بعد الحداثة كافة وحساسيتها الخاصة حيال ما يسمى بالأدب ولغته وجمالياته وفق تصورات جديدة ومختلفة وفيها ثورة جذرية على القديم وثورية جذرية على التأطير والقيد. مجموعاته الشعرية التي نُشرت في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة حتى 2005 ربما يبدو واضحاً لنا الآن أنها كانت طليعية تتنبأ بما سيحدث الآن في الشعرية العربية من تحولات. وربما لا أبالغ إذا قلنا إنه كان يبشر بما هيمن الآن على الأغنية العربية من آفاق للهامشي والشعبي والعشوائي أو الفوضوي، وربما بما جدّ الآن وأصبح بارزاً من سمات الأغنية الشعبية في مصر من أغاني المهرجانات. قصيدة عماد أبو صالح أو نصه الشعري الذي يمزج مقولة عامية في القصيدة أو يقلب معايير القول في الحب، فيمزج الشعبي وغير المألوف والمستقذر أو ما قد يبدو وفق تصنيف معين أنه متدن أو غير شعري... يمزجه بالنص أو يسكنه فيه. هو في الحقيقة تحول كبير في المفاهيم الشعرية وربما الإهمال النقدي ومشاكل تحليل الخطاب والعجز عن كشف سماته الكلية هو المسؤول عن عدم استكشاف التحولات كافة التي أحدثها عماد أبو صالح في القصيدة، ونتوقع أنه سيتزايد الاهتمام بنصه الشعري والعودة إليه، وستكشف السنوات بمرورها أن نصوصه قادرة على منح المزيد من المتعة بمرور الوقت واكتمال التحوّلات التي كانت تحدث وما زالت في الذهنية العربية، فيمكن القول بأنه كان يتعامل مع عقل أو يخاطب عقلاً مستقبلاً يتّسم بالنخبوية، وليس هو التيار العريض من مستقبلي الشعر العربي في وقت نشر هذه المجموعات الشعرية. ويمكن للناقد أن يراهن على أن مستقبِلي شعر عماد أبو صالح هم أجيال تولد الآن وفي المستقبل، أجيال تتشرّب الثقافة العالمية من دون حدود أو فواصل بين عربي وأوروبي وأميركي.
شعره بشّر بما يهيمن الآن على الأغنية العربية من آفاق للهامشي والشعبي والعشوائي أو الفوضوي


جوهر الشعر عند عماد أبو صالح ينبع من موقف الإنسان/ الذات الشاعرة من عناصر الوجود كافة. موقفه من الرغبة والحب والجنس والجوع والفقر والتشرد والمرض والموت وموقفه من الحرب والعنف والقتل والإجرام وقسوة الآباء في التربية أو معاملة الأمهات، أو قسوة المعلمين في المدارس وغيرها الكثير من المنثور في الحياة في الشوارع والأرصفة والغيطان، وما قد يبدو في نجوم السماء التي يمكن أن يأكلها الجوعى أو يبتلعوها سليمة، فتضيء ما بداخلهم ويصبحوا بها نورانيين. في نصوصه إيقاع وتناغم صوتي فاتن وباهر وجديد، فهو إيقاع المعنى وموسيقى الداخل وموسيقى التناغم، وفي تقديرنا أن البنية الداخلية لهذه النصوص ومحددات الشعرية فيها يسهل كشفها عبر بحث دؤوب في الأنساق الحاكمة والفاعلة في بنية هذه النصوص وتركيبها، في الأنماط المهيمنة من الجمل الإنشائية وتفاعل الخبري مع الإنشائي والتقريري مع المجازي والصورة الشعرية أو الاستعارة الجديدة والمختلفة، وصرخة الاستفهام أو صيغة السؤال بأنماطه، وبما في النصوص من محاججة وجدال وسرد وتقنيات سينمائية أو شكل في التقطيع والتركيب والفواصل والنقلات بين وحدات النص وأجزائه الداخلية. كلها من الأشياء التي يمكن البحث فيها للكشف عن مسارات وسيرورات القول الشعري ومواضع الاختلاف والمغايرة وكيف تنبع منها كلها الشعرية.
يقول في نص شعري أو في بالأحرى مقطع مشهدي من قصيدة:
شمس سوداء
ساطعة في الليل
نخبِّئ أعيننا
ونحن نمرُّ عليه
لشدة سواد النور.
يسلّي نفسه
وهو متكومٌ جوار الحائط
باللعب في أمعائه
بعد أن طردوه من المستشفى
دون أن يرتقوا فتق بطنه
ولو بقطعة من جزمته.
في هذا المشهد مثلاً يمكن أن نكتشف حدوداً كثيرة تشكل وتصنع شعرية النص. حدود جديدة تموضع نفسها من دون سابق مثال، فهي حدود الفانتازيا والغرابة والشجن، مشهد أقرب إلى العجائبي أو الدستوبيا الغرائبية التي فيها يتسلى المريض باللعب في أمعائه وهو ملقى في الشارع أو على الرصيف. إن إخلاء النص الشعري من مشاعر الأسى الساذج وشحنه بالعجائبية والغرابة التي تصل حد الفكاهة والمثيرة للضحك هي جوهر الشعرية لأنها منحت النص نبرةً من العقل وعدم الانزلاق إلى الميلودراما والعواطف أو النبرة الانفعالية والاستثارة بالرخص والبكائية. نجد أنفسنا أمام لوحات سوريالية يهيمن عليها صراع حاد بين العبث والنظام، العبث في أوجه ولامنطقه والنظام في أقصى درجات صرامته وحزمه. يبدو شعره مشحوناً بكمّ حافل من المفارقات، فيرى الحرية في العبودية، والعبودية في الحرية، والعبودية في الطيران وقمة التحرر حتى ليبدو دائماً أنه قادر على أن يرى في كل معنى نقيضه أو في كل مظهر جوهراً آخر مغايراً لا نراه، كما في هذه اللوحة الشعرية الفاتنة. حين يقول:
«أيتها اليمامات، من قال إنك حرّة، هل أنت حرة لمجرد أنك ترفرفين بجناحين في الهواء، حرية تافهة، جاهزة وممنوحة لك بمجانية. هبة من الله. لم تكافحي من أجلها ولم تختاريها. يا مجبرة على الحرية، يا مكسورة الجناح. جرِّبي مرة أن تكوني حرة هنا على الأرض. سيصطادونكِ. جربي، يا محرومة من الحَبَل أن تحبلي. ستصيرين ثقيلة وتسقطين ميِّتة من السماء».
وكذلك في هذه الصور الجديدة التي تصبح مندمجة في بنية كلية توظف صوراً جديدة وتشخيصاً طريفاً في إطار بنية شعرية كلية هي الأساس وهي الأصل، فيمكن القول بأن عماد أبو صالح يجعل دائماً اللغة والصور والمجازات والاستعارات تابعةً للحال الشعرية الكلية لا العكس. فلا يمكن أن ينشغل بالصورة لذاتها أو لمجرد أنه يريد أن ينتج صوراً جديدة. وفي تقديرنا أن هذا هو الأجمل والأكثر دقة من الناحية الشعرية.
قال الموت لنفسه: «صحيح أنني لا أزل قوياً، لكنني أخطئ أهدافي أحياناً، ولا بد أن أحتاط جيداً. نادى على المرض، أحد كلابه الذين يسلطهم على خلق الله، وطار به مع الريح».
والأمر مثله في هذا المشهد الممزوج بالصور الجديدة، التي هي كما ذكرنا جزء من الجدارية الكلية أو مجرد لوحة موظفة أو مدمجمة في البنية الإطارية الماسكة للحال الشعرية بكليتها.
«بلعوا النجوم سليمة
من شدة الجوع
أضاءت في أمعائهم
وأصبحوا كائنات من نور».
على أن الإنسان لديه دائماً هو الأساس ومنه ينبع كل شيء وتتشكل بقية عناصر الوجود، فالإنسان هو المحرك الأول، بل ما داخل الإنسان هو الأصل لكل شيء. ولهذا نجده يبدأ وينتهي منه وإليه، ونجد نصوصه يهيمن عليها نسق من التنقل بين الداخل والخارج وبين تصوير الإنسان في سلوكه الناعم النامّ عن الداخل، ثم يتحول إلى الطبيعة أو الفضاءات الأوسع في تصوير بانورامي يكون الإنسان دائماً فيه الأصل لا الجزء أو التابع. كما نجد في هذه الصورة حين يجعل من الحب جندياً رقيقاً وخفياً أو غير مباشر يقف في وجه الحرب.
«كنت أريد أن أقبلك
فتتوقف الطلقات
في حلوق البنادق.
أن تحضنيني
فيتعرقل جنزير دبابة
في وردة».

* ناقد وروائي مصري



مختارات من قصائده

-1- قاتل
يدي حمراء.
إنه دم.
لم أكن أذبح دجاجة
ولا أفرط رمانة.
دم حقيقي.
دم شخص.
أنا قاتل.
لم أكن أعرفه.
كان نائماً تحت شجرة
في حديقة.
يفرد ذراعيه على اتساعهما
ليحضن حبيبته في حلم.
تدخلتُ في اللحظة المناسبة
وغرزت فيه سكيني.
هو لم يصرخ
لكنني سمعت صرختها.
لم أتلفت ولم أفر.
مشيت بخطى واثقة
أتنفس بعمق
وأُصفِّر.
كأني قطعت قالب حلوى.
كأني قطفت وردة

-2- ذم الشعر
اعطني سيجارة
تفضل
-من أنت؟

شاعر
-لماذا تجلس في الحديقة؟
انتظر الشعر
-لا يسكن هنا
تعرف مكانه؟
-المزبلة
كيف؟
-حين يعثر جائعان
على تفاحة كاملة
هربت من أسنان عائلة سعيدة
أكلاها معاً؟
-كانا سيتقاسماها فعلاً
لكن السكين
لمعت فجأة في نفس الكيس
من البيت نفسه
وحسمت الصراع
لصالح فم واحد
له بيت آخر؟
-المذبحة
حين يتدحرج ذراع قديس

ويحضن عاهرة
في مصالحة حقيقية
بعد فوات الأوان
أنت شاعر؟
-كنت
تركته؟
-أغواني وهجرني
لماذا تجلس في الحديقة؟
-لأنصح الأطفال
ماذا تقول لهم؟
-احذروه
يتخفى أحياناً، في الحلوى
وللشعراء الجدد؟
-أمامكم فرصة للهرب
سيحوّلكم إلى كلاب
تلهثون وراء خطواته.

-3- زينب
تقول لي أمي:
«إذا مت
لا تدفنوني في الليل»
تعودت أن ترعبني منذ كنت طفلاً:
في الصباح تقول لي
«سأموت في المساء»
وحين يأتي المساء تقول:
«سأموت غداً»
زينب هذه
لمن لا يعرفها
غرفة دمع
شوال ألم
مخزن عتمة
صندوق أحزان
لو تموت وترحمني
لو أموت وترحمني
لكن
لماذا توصيني
بأن ندفنها في النهار؟
هل ستربي الدجاجات في قبرها
هل ستزرع فيه شجرة؟
هل تعتقد أن الشمس
ستشرق لها هناك؟
ماذا ستفعل بالنور أصلاً
بعد أن أصبحت عمياء تماماً؟
بعد أن أكل ذباب الزمن
عسل عينيها؟
لولا أنني متأكد
أنها لا تستطيع أن تكتب اسمها
لظننت أنها قرأت لوركا
هو الآخر كان يقول:
«إذا مت
دعوا الشرفة مفتوحة»

-4- صباح الخير
صباح الخير
على ذبول عينيكِ
صباح الخير
على عريشة شعرك.
على نقطة العسل
السائلة فوق المخدة
من فمك.
على الدبدوب الكسلان في حضنك.
على الحمامتين المحبوستين
اللتين تنقران شبابيك الدانتيلا
في حمالة صدرك.
على الملك المستبد
الذي فشلت طعنات ليلة أمس
في زحزحته
عن عرش جسدك.

صباح الخير
على الملابس المتسخة
في سلة غسيلك.
على بقايا طعام العشاء
في صحون مطبخك.
على الفنجان
الذي يحبس أنفاس القهوة
لتبقى ساخنة
في انتظار قبلتك.
على التراب العالق بنعل جزمتك.

صباح الخير،
كرامة لخاطرك،
على كحة أبيكِ
وروماتيزم ركبتي أمك.

صباح الخير
على العصافير المختبئة
من أصوات الرصاص
في شرفتك.
على ذبابة وجه
ابن بواب عمارتك.
على كلب جيرانك
وزبّال شارعك.

-5- أحبك
ضد الصفيح.
ضد البلاستيك.
ضد السندويتشات.
ضد الدمعة، والكمبيوتر، وضد نقطة الدم.

ضد الأنفلونزا.
ضد حصص الكيميا.
ضد الإسفلت.
ضد شكمانات العربات.

ضد رغبة أمك.
ضد العالم والزمن.
ضدك أنتِ نفسك.
أنا خجلان من أن أقول:
«ضد إرادة الله
الذي شاء أن تكوني
لواحد غيري».

-6- يدكِ
أحب يدك.
صديقة الأواني والأكواب والملاعق
الناعمة
من دهان السمن في الطاسات
الدافئة
من لسعات الطواجن
الراقصة البارعة مع السكين.
ملكة المطبخ.

أحب يدك.
يدك التي لا تكتب
ولا تعزف
ولا ترسم
يدك التي بلا قبلة ولا وردة
بلا مانيكير
ولا خواتم.
أحبها تحديداً
لهذا الوسخ الخفيف
تحت الأظافر.

شِرش الجزر
مغرفة الأرز
صحن القطة
منفضة المخدات
فرشاة البلاط
لوفة ظهري
بطة طشت الغسيل.

وأنا أمشي معك
أمسك بها بقوة
أعرف أنك ستطعمينها،
دون تردد،
لطفل جائع.

-7- آدم وحواء
ستكونين معي وسط العشاق في حديقة.
يدك في يدي، ورأسك على كتفي.
ننعس قليلاً ونصحو، فلا نجد أحداً حولنا.
أين العصافير والورد، العربات، اللصوص والجوعى؟
أين الكلاب والقطط، البيوت والشوارع، القتلة؟
أين راحت الحياة؟

لا شيء سوى الفراغ، وصدى صوتنا.
نتعب من المشي. فجأة تنبت شجرة نستريح تحتها.
تتفجر عين ماء، أسقيكِ بكفي منها.

شيئاً فشيئاً نفهم أن الناس صعدوا، ليحاسبهم الله في السماء.
أنا وأنت، يا حبيبتي، وحيدان هنا على الأرض.

لابد أن الملائكة ستبتسم لنا من الأعالي وتقول:
«والنبي يا رب
امنح البشرية
فرصة ثانية»

-8- عيد ميلاد أمي
هل قال أبي لأمي،
ولو مرة واحدة،
«كل سنة وأنت طيبة؟».
إطلاقاً.
ولا هي نفسها
كانت تعرف يوم مولدها.
كأنها لم تكن،
في أي يوم،
طفلة.
كأنها مخلوقة هكذا:
حافية
بملابس سوداء
وبين وقت وآخر
تهرش شعرها الأبيض
بيديها الملطختين بالطين
كأنها تصبغه.
الشيء الذي ظل يذكره
هو يوم موتها.
كأن الموت
هو الدليل الوحيد
على أنها كانت حية،
في يوم ما،
في الحياة.

لن أنسى منظره
وهو يمد أصابعه المشققة
ويغلق عينيها
بغلظة
كأنه يفقأهما.
عيد ميلاد
و Happy birth day to you
ووردة؟

إنه حتى لم يفكر
أن يهديها حزمة عشب
من التي يحملها،
كل صباح،
لبقرته.

مع أنه كان يقيم حفلة،
كل ربيع،
للطيور.
يحرث الأرض
يغطيها بالماء
ويبذر البذور،
من حِجر جلبابه،
مثل شِيف محترف
يرش المكسرات
على تورتة كبيرة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا