يلاحظ المرء تعالي أصوات اللغو المعتاد الذي يدعو للضجر «حلّ سلمي وعادل» لمشكلة الشرق الأوسط بمناسبة ومن دون أي مناسبة، وتكثر شكاوى بعض القوى العالمية من أن «الصراع قد طال ووجب إنهاؤه». موعظة تُلقى علينا منذ اغتصاب فلسطين عام 1948 إلى يومنا هذا، ما يعني، في ظننا، وجود خلل في النظر إلى هذه المشكلة المستعصية. واشنطن أكثر صدقاً مع نفسها من موسكو، إذ أنّها تصيغ شروط التسوية بكلمات واضحة وهي استسلام العرب لشروط العدو الصهيوني. موسكو، على العكس من ذلك، ليست صادقة حتى مع نفسها، إذ لا تتحدث عن أسباب استمرار الصراع، مع علمها بعدم قبول بعض العرب الاستسلام لشروط تل أبيب وواشنطن. موسكو تعلم أن أحد شروط تحقيق «حل سلمي وعادل» في المنطقة هو قيام توازن عسكري بين الأطراف بما يمنع المعتدي من فرض شروطه كما فعل مع مصر والأردن وجماعة أوسلو. هذه سياسة موسكو منذ عام 1948 ولم تتغير، إذ أنّها حريصة على بقاء التفوق العسكري الإسرائيلي مسلطاً على رقبة حليفتها في دمشق. هنا نتذكر قول المحلل الروسي رئيس «الجمعية الروسية للصداقة والتعاون مع البلدان العربية» والدبلوماسي الروسي السابق فيتشسلاف ماتوزوف إنّ الرأي السائد في موسكو كان رفض مساعدة دمشق في الحرب على الإرهاب، وإن المزاج تغير فقط بعد الانقلاب الغربي في أوكرانيا وجاء رداً عليه. على أي حال، إن منع موسكو الأسلحة الكاسرة للتفوق الإسرائيلي عن سوريا، لن يؤدي إلى «حل سلمي وعادل».

هذه المقدمة مهمة لشرح محتوى كتاب ISRAEL – EINE UTOPIE. PROPYLÄEN VERLAG بقلم أمري بوم «الفيلسوف» الإسرائيلي الصهيوني والموظف السابق في جهاز الموساد الذي يبحث في مستقبل كيان العدو. فموقعه في الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية سمح له بأن يكون أكثر اطلاعاً من غيره على أحوال كيانـ(ـه) الاستعماري-الاستيطاني العنصري ومستقبله، فيطرح حلاً يهدف إلى إنقاذ الكيان وليس إحقاق حق الفلسطينيين.
الكاتب وهو من مواليد عام 1979 في مدينة حيفا المحتلة، ومحاضر في مادة الفلسفة في جامعة New School for Social Research in New York يعيد اكتشاف العجلة ويرى أن مبدأ إسرائيل اليهودية يتناقض مع الفكر الليبرالي الغربي. لذلك، يطالب بأن يستحيل الكيان اتحادياً-لاإثنياً لمواطنيه جميعاً، شبيهاً بما هو قائم في بلجيكا وسويسرا، وليس لليهود فقط.
كان من المقرر أن يصدر الكتاب باللغة الإنكليزية، لكن انتشار جائحة كوفيد 19 المستحدث عطّل برنامج عمل الناشر الأميركي والعرض الحالي هو للترجمة الألمانية. الناشر الأميركي أخبرني بأن النسخة الإنكليزية ستصدر قريباً مضافاً إليها فصل جديد كتبه المؤلف بعد صدور الترجمة الألمانية، وأعد القراء بعرض تلك الطبعة في حال احتوائها على أمر جديد.
النسخة الألمانية موضوع العرض، أثارت نقاشاً مطولاً في ألمانيا، إذ أنّها تحوي مقدمة خاصة للقراء الألمان يشرح فيها الكاتب أسباب رفضه تعليلات كتاب ألمان لعدم انتقادهم سياسات كيان العدو ورفض الحديث في اضطهاده الشعب الفلسطيني، اعتماداً على كتابات فلاسفة كبار منهم كانط وليو شتراوس وسبينوزا وإرنست بْلُخ وهابرماس وفوكو وغيرهم. ويرى أن إسرائيل ليست سوى مرآة لعصاب الألمان، يمينيين ويساريين (يمكنني إضافة القول: هذا يسري على اليسار الأوروبي على نحو عام).
الكاتب، وهو من أصل ألماني وإيراني، يرى أن حديث الأوروبيين في ما يسمى حل الدولتين هو رُقاد عقائدي، ولا مكان له بين الحقائق على الأرض. لكن تمسّك جماعة أوسلو بذلك «اللا» حل ما هو سوى خداع هدفه الاستمرار في التمسك بسلطة «ولو على مجاري إريحا، بل وحتى ولو على ظهر حمار». كما كانت قيادة المنظمة تُرَدِّد أيام بيروت نكاية في معارضة اليسار لسياستها الانبطاحية، وهذا رأي كاتب هذه الكلمات.
يرى أن مبدأ إسرائيل اليهودية يتناقض مع الفكر الليبرالي الغربي


وقد علّق أحد الكتّاب الألمان بسخرية على هذا المؤلف بالقول: «هذا المؤلف معاد لليهود [السامية]»! يجب أن يتوصل المرء إلى هذا الاستنتاج على الأقل، إذا أخذ قرار البوندستاغ في أيار (مايو) الماضي على محمل الجد والذي يسمّي «معادياً للسامية» أي شخص يشكك في حق وجود دولة إسرائيل اليهودية والديمقراطية. وهذا بالضبط ما يفعله أمري بوم، بالإشارة إلى التناقض بين «اليهودي» و«الديموقراطي» من منظور دستور الدولة.
يطالب الكاتب بإقامة جمهورية حيفا، حيث يعيش اليهود والفلسطينيون جنباً إلى جنب بوئام ومحبة، وفق منظوره الخاص، ويرى أن خطيئة إسرائيل الكبرى ليست في احتلال ما يسمى الضفة الغربية وإنما في النكبة، وهذه نظرة جديدة من كاتب صهيوني «معتدل».
الفصل الأول: «ما النسيان؟» يتبع نصاً قصيراً أصبح كلاسيكياً للمؤرخ يهودا الكانا، الذي توفي عام 2012، وقدم فيه أطروحة مفادها أن إحياء ذكرى ما يسمى المحرقة - الذي يضر بالسياسات الديمقراطية الليبرالية - هو أكبر تهديد لوجود إسرائيل. ويحذّر الفصل الثاني (تذكر النكبة) الإسرائيليين بأنه في حال عدم تحملهم مسؤولية جريمة التطهير العرقي، فإن «التطورات السياسية الحالية ستجعلنا نكررها». ويدعو الكاتب في الفصل الثالث (الصهيونية الليبرالية المستقبلية) إلى التخلي عن اللغو المألوف، الذي لا يزال كبار المفكرين الليبراليين يتمسكون به، والذي يدّعي عدم وجود تناقض في مفهوم الديمقراطية اليهودية الليبرالية. وأخيراً، يدعو الفصل الرابع (جمهورية حيفا) إلى فحص اقتراح سلام من الماضي غالباً ما يُنسى.
كما أضاف الكاتب ملحقاً خاصاً بردود الفعل في ألمانيا على نتائج الانتخابات في كيان العدو والمقابلات الصحافية التي أجريت معه في ألمانيا وغضبه على الصحافيين الألمان الذين التقاهم.

ISRAEL – EINE UTOPIE. PROPYLÄEN VERLAG 2020. 256 PAGES. OMRI BOEHM. DIE ORIGINALAUSGABE ERSCHEINT 2020

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا