في كتابه «في اليقين» (دار الرافدين) الذي ترجمه وقدّم له المترجم الأردني مروان محمود، يطرح الفيلسوف وعالم المنطق النمساوي الراحل لودفيغ فتغنشتاين (1889-1951)، نقاشات خاصة حول المعرفة، الحس المشترك، المعرفة واليقين، الممارسات الإنسانية، كما دخل عالم المذاهب الفلسفية. الكتاب الذي صدر أساساً في عام 1969، وكتبه فتغنشتاين خلال مرضه آخر حياته، يغوص عبر منهج بحثي/ تحليلي خاص في عوالمٍ فلسفية، لربما بعيدة عن القارئ العربي، الذي يدخل عوالم هذه الكتب بمجملها كضيفٍ لا أكثر ولا أقل؛ إذ يكفي فقط أنه احتجنا لأكثر من ثلاثين عاماً تقريباً حتى نترجم كتاباً بهذا الحجم الصغير (يقع النصّ الأصلي في أقل من مئة صفحة من القطع الصغير).

يرى كثيرون أن فتغنشتاين، واحد من آباء فلسفة القرن العشرين، إذ يمكن اعتبار كتابَيه «رسالة منطقية فلسفية» و«تحقيقات فلسفية»، من علامات القرن العشرين في هذا المجال. في الإطار نفسه، يمكن ردّ «الثورة» الفلسفية بعد مرحلة الحرب العالمية إليه كواحد من منظّريها. يجوز القول في فتغنشتاين بأنه «تلميذٌ» نيتشوي (نسبة إلى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه)، لكنه تجاوز ذلك، حين «غيّر وجهة وطريقة التفكير الفلسفي المعتادة في التعامل مع المسائل الفكرية». درّس الفلسفة في جامعة «كامبريدج» البريطانية العريقة ثم تركها في عام 1947 مركّزاً على إنتاجه الكتابي والمعرفي، ليعيش بعد ذلك عزلةً اختيارية في قريةٍ صغيرة في إيرلندا (تحديداً في كيلباتريك شرق مقاطعة ويكلاو)، حيث تفرّغ وقتها لكتاباته وإن كان يظلّ يتزاور ويتواصل مع شخصيات فلسفية معروفة مثل باتريك لينش ونورمان مالكولم الذي تحتل نقاشاتهما صفحات الكتاب الماثل بين أيدينا. لربما من أبرز أفكاره هي انتقاده لاستسهال «التفلسف» في أمورٍ كثيرة، ما يوقعنا في فخ «الدوغمائية/ الجزمية» (أي التعصّب الشديد لنفس الفكرة) تحديداً حسب توصيفه الحرفي. هو شخصياً كان قد وقع في هذا الفخ بعد كتابه الأوّل «مصنّف منطقي فلسفي» الذي كتبه في بدايات حياته، والذي اعتبر أنّه من خلاله «حل كلّ مشكلات الفلسفة، ولم يعد هناك ما يقال فيها»، ما دفعه إلى ترك المجال نهائياً والعمل في مهنٍ بسيطة مثل بواب وجنائني وغيرها من المهن الحرفية البسيطة. عام 1928 كان عام عودته إلى الفلسفة حينما عاد إلى الكتابة والدراسة في هذا المجال بعدما اكتشف أنه كان ضحية «لدوغمائيته» من دون أن يدري.
كتب فتغنشتاين «في اليقين» في السنتين الأخيرتين من حياته؛ وهو عبارة عن ملاحظات ومقالات ورسائل تبادلها مع صديقه الفيلسوف الأميركي الراحل نورمان مالكوم (1911-1990). يبدو الكتاب في كثيرٍ من نصوصه منهكاً متهالكاً أكثر من أيّ شيءٍ آخر. إذ كانت صحة الفيلسوف النمساوي حينها تتدهور شيئاً فشيئاً جراء مرض السرطان الذي ألمّ به، وقد كانت نصوصه تتأرجح جرّاء ذلك: جرّاء المرض، العلاج القاسي، وقوة الأدوية التي أثّرت لا على جسده فحسب، بل أيضاً على منطقه العقلي وطريقته التحليلية في التفكير. يشير في إحدى الرسائل إلى مالكوم: «إذا تمكّنا من أن نلتقي، فستجدني بطيئاً جداً وغبياً. أحظى بلحظات وعي قليلة جداً. أنا لا أكتب أبداً، لأن أفكاري لم تتبلور بما فيه الكفاية». هو يعود ليكتب مجدّداً كلما استطاع -في تلك الفترة- فيبتهج إثر ذلك: «حدث شيء رائع بالنسبة لي. منذ حوالى الشهر، وجدت نفسي على نحو مفاجئ في الإطار الصحيح للعقل لممارسة الفلسفة. كنت على يقين تام من أنني لن أتمكن مرة أخرى من القيام بذلك. إنها المرة الأولى بعد أكثر من عامين التي يرتفع فيها الستار عن عقلي». هذه الكلمات كانت من الرسالة الأخيرة التي أرسلها فتغنشتاين إلى مالكوم قبل ثلاثة عشر يوماً من رحيله؛ وقالها إثر انتهائه من كتابة الجزء الرابع من هذا الكتاب والذي اعتبره «أفضل أجزائه».
يضم ملاحظات ومقالات ورسائل تبادلها مع صديقه الفيلسوف نورمان مالكوم


يناقش الفيلسوف النمساوي في الكتاب أفكار الفيلسوف الإنكليزي الأشهر في العصر الحديث جورج مور. مور الذي قرّب الفلسفة من «اليومي/ المعتاد» واهتم كثيراً بمفهوم «الأخلاق» حتى يمكن اعتبار كتابه «أصول الأخلاق» أساساً في إعادة الاهتمام -فلسفياً- بهذا الموضوع في فلسفة القرن العشرين. يناقض فتغنشتاين مور كثيراً وفي عدّة مواضع، ويضع نقاشاته أمام نقاشات مور مشيراً إلى أنَّ الأخير في كثير من الأماكن كان «غير منطقي» و«مخطئاً». هو كتاب مهم بالتأكيد، ويمكن المراكمة عليه، لكن لا يمكن قراءته وإدراكه بمعزل عن قراءة كتب وتجربة فتغنشتاين ككل، إذ إن كثيراً مما فيه هو «تكملة» أو «إيضاح» أو نقاش لما سبق وتحدّث به سواء في حياته اليومية/العملانية أو في كتبه السابقة. عربياً، بالتأكيد تحتاج المكتبة العربية إلى هذا النوع من الكتب، كي تستطيع أن تهدم هوة تتعاظم كل يوم بسبب ابتعاد الفلسفة العربية الكلي -تقريباً- عن مجالات التفكير الحديث.