تقديم وترجمة (عن الإنكليزية): هاشم شفيقكان ميلاد ريتسوس عادياً لعائلة متوسطة العدد، رقيقة الحال. لذا كان مجيئه إلى الحياة لا يثير الغرابة والدهشة والحبور السابغ، بل هو مرَّ مثل بقية ولادات إخوته. كان رقماً جديداً يضاف إلى العائلة، ولم يلقَ ذاك الفرح الذي يصيب عادة الوليد الجديد، لا سيما حضوره البيولوجي الذي جاء بعد رخاء غارب وراحل عن العائلة التي توفّرت في يوم ما على نوع من الهناءات الصغيرة والماتعة. ذات يوم وعند مدينة بحرية، مفعمة بصخور حادّة وبحر لا يهدأ وأشجار تتقاسم المنظر، وتلال رطبة، مزهرة طوال العام، وحقول ممتدة في أرض خصبة، هناك في مدينة مونفاسيا، ولد الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس (1990 – 1909) كسليل آخر، للأغارقة الغابرين، في يونان اصطخبت فيها العلوم والفنون والأشعار. طفولة ريتسوس لم تكن يسيرة، بل شاحبة وصعبة، في عائلة تتكون من أربعة أطفال، كان ريتسوس أصغرهم سنّاً، عائلة تتناهشها الأمراض كالسل والجنون، السل الذي أصاب أخته وأصابه هو، والجنون الذي ألمّ بالأم، والأب كان شبه معتوه قضى أيامه الأخيرة في لعب القمار، بعدما عاشوا في الماضي حياة رخية. شعر ريتسوس المشبع بأشياء الحياة وتفاصيلها، شعره اليومي الأليف والمرهف، هو خزين للظلال والضوء والحركة، للنور الساقط على الأرض، شعر يبدو في ظاهره بسيطاً، بيد أنه شديد العمق حين يستغرقنا داخلين في شبكته الخيطية ونسيجه الباهر، متين البنيان، ضاربة جذوره في تراب الأسطورة الإغريقية، لقد كان ريتسوس أهم شاعر في القرن العشرين باعتراف كبار شعراء عصره كالفرنسي أراغون وشاعر تشيلي نيرودا وشاعر اليونان بالماس وغيرهم.


قصائده قرأها الملايين، حتى إنّ الملاعب ومدرّجاتها كانت لا تتسع لمحبي شعره، كيف لا وهو سليل أسخيلوس وهوميروس، وأيضاً كفافي وبالماس وسيفيرس، وريث لغة الأساطير والملاحم، وريث الثقافة الإغريقية المتنوعة، وريث فلسفتها وجدلها وتحولاتها عبر التاريخ، منذ أرسطو وسقراط وأفلاطون، هو نتاج هذا التراث الفلسفي المترع بثقافة دينية – أرثوذوكسية وميثولوجيا ممتدة إلى بدايات الخلق والتكوين ونشأة المنطق والسؤال الوجودي الذي كان يطرحه المناطقة والفلاسفة وحكماء اللوغوس في الأكروبول. إذاً شاعرية ريتسوس وثقافته ومعرفته هي مزيج من كل هذا. مزيج متداخل ومتواشج مع حيوات كبرى وتفاصيل موغلة في عمق الحاضر اليوناني. إنها ثقافة الحاضر المتجلي في الماضي، الوثنية إلى جوار المسيحية، المتافيزيقية بمحاذاة الماركسية، الماديّة حذاء المثاليّة، الفاشية مقابل الشيوعية، والأخيرة هي التي جرته إلى ضواحي وأزقة سالونيك العماليّة، حيث النضال ضد الديكتاتورية ونظام العقداء السود، كلّ هذا نجده يتنفس ويحيا ككائنات لها روح ودم في شعر ومسرحيات وروايات ونثر ريتسوس.
تفتحت عبقرية ريتسوس الشعرية حين كتب قصيدة عن جدِّه حين كان في الثامنة من عمره، والجدّ هو نيكوس ريتسوس الذي حارب من أجل بقاء اليونان التي خاضت حروباً عديدة مع الجوار. إذاً هكذا هو دأب العبقريات، في صغرها تتفتّح كرامبو وجان بول سارتر والمتنبي والسياب، وعطاء العبقريات يتأسطر، يغدو أسطورياً لأنه صنيع النوابغ، مهما جاء قليلاً أو كثيراً، فهو واحد موسوم بإكسير السرمديّة. فبين أول مجموعة شعرية لريتسوس «جرّارات» وآخرها «صفير المدن»، أصدر ريتسوس مئة مجموعة شعرية ويزيد، تكاد تكون من دون زعم ومغالاة قلب وروح العالم. لقد جسَّد في هذا الشعر كل مشكلات الكون، وتحوّلاته الدراماتيكية، منذ بدئه حتى لحظته الراهنة. إنها عصارة الزمن، ماثلاً وملتمّاً داخل رؤية شعرية شمولية، كونيّة، مزَجتْ الخاص بالعام، الراهن بالأسطوري، اليومي بالملحمي، الظلام بالعتمة، الشقاء بالسعادة، الموت بالحياة، الحرب بالسلام، الخير بالشر، وهذه الرؤيا خلطت العناصر والأشياء بدَهش مبين، الوردة بالموجة، التراب بالضياء العسل بالملح، الرغيف بالحجر، الخشونة بالشفافية.
بيان القول، إنها براعة نادرة، براعة المتمكن، المبتكر والساحر، والمكتشف الدائم، ولم يوفّرها الإله والزمن والتاريخ كما وفرها لريتسوس. رغم الذي مرّ، لقد عانى ريتسوس الكثير في حياته، عانى من الفقر والمرض والمصحات والمعتقلات والنفي، عانى من العزلة والوحدة والنفي الإجباري إلى معسكرات الاعتقال نتيجة مواقفه السياسية ونتيجة قول الحقيقة من دون خوف ومواربة، لم يَهُن ويستسلم ويخضع رغم قساوة المسيرة، بل تحدّى وقال ملء فمه ما ابتغى وأراد، لم يرهبه القهر والظلم والتنكيل، بل واصل وأصرَّ على المضيّ نحو ضوء الحرية، حيث وقف منشداً ومؤازراً ومسانداً القوى اليسارية في جميع أنحاء العالم ومن ضمنها العراق وفلسطين، محارباً حكم العسكر، ومنتصراً للعمال والصيّادين والبحّارة والمزارعين الذين غنّاهم طويلاً في أشعاره، خصوصاً أنه القروي القادم من منطقة مونفاسيا مسقط رأسه وريف أحلامه الأولى. كما دافع عن حق المرأة وسطّر العديد من القصائد حول شؤونها الكبرى والصغيرة، في البيت أول الحقل أو المصنع، غنّاها كحبيبة وأخت ومناضلة وأم وزوجة. باختصار حوّلها ريتسوس في أشعاره إلى أسطورة واقعية. لقد كان أرقّ كائن حتى مع الدواب الصغيرة، كان صديقاً للفراشات والطيور والأطفال والحقول والأمواج، وكذلك صديقاً رقيقاً للأبواب والنوافذ والخزائن والمرايا والدروع والأقداح والقناني. إنّه صديق حميم للأشياء والكائنات والعناصر، ومُحب لما تجود به الحياة من شموس وبحار وجبال وليل ونجوم وصباحات ومساءات وكواكب وريح وفصول وآفاق. من هنا شعره الشبيه بالموسوعة التي تحتوي على كلّ شيء له صلة وعلاقة ونسب مع الحياة. وبذا حاولت في هذه القصائد المختارة، أن أقرِّب صورة ريتسوس، إلى القارئ العربي، بروحه ونبضه ومشاعره وأحاسيسه ولوامسه عالية الحسّاسية، وهذا لا يتوفّر عليه أو يخوض غماره إلا الشاعر الذي يعرف إيقاع الروح للشاعر الآخر، إيقاع الروح والهاجس والإيماءة والدلالة المخفية بين السطور، إيقاع الظل غير المرئي والبوح الصامت الذي يحمل العلامة.

1- صباح.
ها هي ذي
فتحتْ كلّ المصاريع
وعانقت الستائر التي ترفرف
على عتبة النافذة،
إنها قد رأت النهار،
وحين حدق الطائرُ تجاه عينيها
همستهُ: أني وحيدة،
ولكنني ما زلتُ أحيا،
ثم دخلتْ غرفتها،
باتجاه المرآة التي هي أيضاً نافذة
قالت: إذا قفزتُ منها سأسقط على ذراعيّ.

2- ذات ليلة.
القصرُ كان مغلقاً
منذ أربع سنوات،
بالتدريج انكشف جزءٌ من الشرفة،
ذات الدرابزين المشبّك
لمدة ليلة واحدة،
الطابق الثاني
كان مضاءً كلهُ،
ثماني نوافذَ واسعةٌ
انفتحتْ من دون ستائر،
وبابان انفتحا أيضاً،
ليس ثمة روح هناك،
سوى مربّعٍ
من المكان مضاء،
سوى رغبةٍ
غابتْ هناك عبر الحائط
في المرآة الأثريّة
بموديلها المصنوع
من الخشب المنقوش،
رغبة تتمرأى هناك،
وحولها عَطَن
تجمّع على ألواح الأرضيَة
تلك التي اكتستْ
ملامحَ عراقةٍ عميقة.

3- هبوب.
مقابل النافذة
زهَراتُ عبّاد شمسٍ كبيرة،
وعلى الشارع المتسخ
غبار الخيول المارّة،
هي ما زالت واقفةً هناك
تنتظر حزنى،
الضوءُ ينعكسُ
على وجهها،
ربما كان ضوء
زهرات عبّاد الشمس المقابلة لها،
فجأةً
اندفعت ذراعها
فراحتْ تطارد الريحَ،
نزعتْ قبّعة القش،
قابضةً بها على صدرها،
ثمّ انطلقتْ للداخل
لتغلق النافذة.

4- تقريباً.
التقط أشياء
ليست كثيرة:
حجراً
قرميداً مكسراً،
المسمار الصدئ
من الجدار المقابل،
الورقة التي تأتي
عبر النافذة،
القطرات المتساقطة
من إبريق الأزهار المسقية،
القش القليل الذي سفته الريح
في شعرك البارحة،
هو يأخذ كل هذه الأشياء،
ليصنعَ شجرة
في حديقته الخلفية،
الشعر يكمنُ في هذا تقريباً،
هل تستطيع أنْ ترى ذلك.

5- مساء.
سقت الأزهارَ
وأنصتت للماء يقطر من الشرفة،
البوابة الكالحة
امتصّت القطرات وأينعتْ،
غداً عندما تُهدم الشرفة
ستظلّ في أعالي الهواء
هادئةً وجميلة،
تحمل في يديها
إبريقين كبيرينِ
لسقيا أزهار الجيرانيوم
ومعها ابتسامتها.

6- النفي مرتين.
رتبت الأزهارَ
في المزهريات
وربطتها إلى الأعلى،
تريّثتْ قليلاً
ثمّ حامتْ
حول الرجل،
هو كان صامتاً
في صباح هادئ،
يشمل النوافذ الأربع،
في يديها كانت مريشة الغبار
تنظف فيها
وتهش الذباب المتطاير
فوق أثاث المنزل،
لم تول عنايتها كفاية،
هو رأى
طائراً عامراً بالألوان
يختالُ فوق النُصُبِ الخزفية،
هي ظلتْ واقفةً،
مترددةً
متحيرةً،
في الأخير انحنت عليه
هو قال:
لا
لا
يا أيها الطائر،
هي قالت:
ليس طائراً هذا،
ثم راحت تبكي.

7- وقت آخر.
لا شيءَ
سوى قمر فضيّ كبير،
وحصانٍ أبيض،
وراء أسيجة المزرعة،
يغمره الضوء..
هنا دخل الفتى المزرعة
ليس عبر البوابة
بل تسلل من خلل الأسوار،
حيثُ خلفت الأسوار الشائكة،
في صدره
وفي فخذيه،
أربعة خدوش ذهبية عريضة،
موسومة فيه،
مطرّزةً
ومطبوعة،
بينما تحت الأشجار
كان يصهل الجواد.

8- مهنة الشاعر.
في الممرّ
مظلاتٌ/
جزماتٌ/
داخل المرآة مرآةٌ،
وثمة النافذة
وفتحة صغيرة
لبوابة المستشفى،
عبر الشارع
هناك طابور طويلٌ
من الأصحّاء المانحينَ
دماً أليفاً،
الأول سحبَ أكمامه للأعلى،
بينما داخل الغرفات خمسُ إصاباتٍ
على وشك الموت.

(*) مقتطفات من كتاب بالعنوان نفسه، صدر حديثاً عن «دار المدى»، بيروت/بغداد.