صدرت أخيراً عن «دار الساقي» طبعة ثانية مِن كتاب الأنثروپولوجي وعالم السياسية الأميركي جيمس سكوت (1936) «المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم» (1985). يدور الكتاب حول فكرة رئيسة هي فهم العلاقات الطبقية في آسيا عبر دراسة عمليات بيع وشراء الأراضي ومسويات الأجور والمكانة الاجتماعية وتأثير التغير التكنولوجي على السكان. راح سكوت يتفحّص التناقضات المادية والنفسية بين السكان المحليين في آسيا، وخصوصاً في قرى جزر المالايو حيث وجد أن هناك صراعاً نفسياً ينتج داخل وجدان الفرد عندما ينتمي إلى شريحة الفلاحين الأكثر فقراً واحتياجاً وارتباطاً بالمتغيرات الاقتصادية التي تحدث في قراهم. وعلى العكس، وجد الصراع النفسي أقل حدة لدى الفلاحين الأكثر استقلالاً ذاتياً ومادياً.لعل أبرز التناقضات النفسية الداخلية التي وقف عليها سكوت هي «طريقة الكلام» بين الفلاحين، وخصوصاً مَن كان منهم عند خط الفقر المدقع. مع وجود متغير دخيل عليهم وهو «الأغنياء»، تتغير طريقة وأسلوب وكلمات وقضايا الفلاحين المطروحة للنقاش، وإن غاب مُتغير الأغنياء، يتخذ الحديث منحى آخر تماماً.


والتلاعب بأساليب الكلام لا يشكل الجزء الفريد من كتاب سكوت، بل سبق أن أشارت إليه دراسات حول الرق، والقنانة، والتبعية الطبقية، وأثر الموروثات الشعبية الخفية وعلاقاتها بالتراث الشعبي العلني. كذلك لم يكن الاستناد إلى المسألة الطبقية وحدها بصفتها كفيلة بتوضيح علاقة الكلام بحيازة القوة، فهناك عوامل أخرى مثل الاستعمار والسيطرة الأبوية والدين وآليات عمل المؤسسات الاجتماعية كالمدارس والسجون.
يقر سكوت أن دراسته في قرى المالايو تتجاوز أصول العمل النظري لكثير من نظريات الحداثة، لأن الواقع الآسيوي يختلف في بنيته ومواقعه الاجتماعية عن نظريه الأوروبي، ما يتطلّب وضعاً تحليلياً مغايراً ومطابقاً لواقع المجتمع موضع الدراسة. وبفرض توفر هذا الوضع التحليلي، يبقى باب الإقرار بعدم القدرة على الوصول إلى قيمة حقيقية من البحث مفتوحاً على مصراعيه.
فالإشكالية البنيوية في نظر المحلل الأميركي للمجتمع الآسيوي ــ الزراعي صريحة ومباشرة. يمكن أن ترى غياب أي حقوق مدنية وسياسية، بالإضافة إلى تحجّر طبقي، وانعدام القدرة على التحرك الاجتماعي. فالمكانة تنشأ مع صاحبها بالولادة، ويعتبر الانتقال من شريحة اجتماعية إلى أخرى صعباً عملياً ومحظوراً مجتمعياً. فالطقوس الدينية وتوفر الآليات المؤسسية وغيرهما...تلعب دوراً في تثبيت وتصويغ الأوضاع الاجتماعية بين السيد والعبد، المالك والفلاح، ابن طبقة النبلاء والمنبوذ... وغيرها من أشكال التواصل المجتمعي، وهذا عبر شحن هذه العلاقات بأكبر قدر من الخوف حيث عمليات المراقبة والعقاب تبدو جلية في الضرب الاعتباطي، والعنف الجنسي، وطقوس الإذلال والنبذ العلنية، والحرمان من أبسط مطالب الحياة.
من هذه الملاحظات البسيطة السابقة الذِّكر التي أخذت طابع العمومية، تعرّف سكوت إلى كيفية تأثير علاقات القوة في الصيغ الكلامية بين الأفراد. وأشار إلى أن المحكومين في ظل هذه البيئات العنيفة وشديدة المراقبة والعقاب يصنعون لأنفسهم حواضن من المقاومة أشدها وأكثر فاعلية يكون في حقل الكلام وصياغاته وأساليبه، أو بشكل أكثر علمية يصنع المقهورون مجالاً اجتماعياً بعيداً عن سيطرة الحُكام يشمل بعدين مكانياً وكلامياً. البعد المكاني هو فتح العديد من الحانات والمعارض والمسارح وحتى مؤسسات الدين غير الرسمية، والبعد الكلامي يتضمن رموزاً طقوسية نابعة من الدين أو الخرافات التراثية الشعبية والتوريات اللغوية.
ورغم ميزة المجال الاجتماعي المستقل للمقهورين، إلا أنه يفتقد لفعل «التبادل السلبي»، أي أن يبادل الفقير الغني «الإهانة بالإهانة، والصفعة بالصفعة». ويظن سكوت أن مقارنة تطور الموروث الشعبي للمقهورين بالموروث الشعبي للقاهرين تنتج عنه قراءة أوضح لآليات المقاومة والسيطرة.
يهدف سكوت لتقديم قراءة أوسع وأعمق للمحكومين وفهم طباعهم وما الذي يجعلهم يواجهون بندية الحاكمين في لحظة ما، إلى درجة أنه أضاف نفسه للعبة ـــ قد يكون راغباً أو لا ـــ وحاول أحياناً كبح التعبير عن أفكاره أمام الناس الأكثر سلطة ونفوذاً ليجد نفسه يبحث بسرعة عن شخص ما يفضي له ما يريد أن يقول. كما أنه أحياناً كان يشعر بلذة في التعبير عن أفكاره أمام أصحاب النفوذ.
بعد تقديم خطوط عريضة عن كتاب سكوت، يمكن أن نسأل: لماذا يريد فهم الضحية أكثر لا الجلاد؟ ولماذا الحديث عن مقاومة كلامية وفي حقول علم الاجتماع لا مقاومة مجتمعية شاملة تغير قواعد اللعبة المجتمعية القائمة؟ الإجابة ببساطة لتفادي الثورة، وليس أي ثورة، الثورة الحمراء، الشيوعية. القارئ لتاريخ جيمس سكوت، سيدرك أنه أحد مَن قاموا بالعمل ـــ طوعاً ـــ لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وتمتع بدعم سخي منها مقابل الكتابة عن الأوضاع والأشخاص القابلين لتجنيد أو لخدمة مصالح الولايات المتحدة لمواجهة التأثير الشيوعي في بلدان آسيا الزراعية.
في عام 2015، نُشر كتاب للأستاذة في العلوم السياسية كارين باجيت بعنوان Patriotic Betrayal: The Inside Story of the CIA›s Secret Campaign to Enroll يشير بالمستندات إلى الكيفية التي كانت وكالة الأمن القومي الأميركية أثناء الحرب الباردة تجتذب الشباب الأميركي الناجح تعليمياً سواء كان ليبرالياً أم يسارياً، وتقوم بتجنيده لخدمة أهدافها أو ما كانت تعتبره صراعاً لا بد من كسبه، ليس فقط في ساحة الحروب، ولكن أيضاً في ساحات الفكر والإيديولوجيا لسحب البساط الفكري من تحت أقدام الشيوعيين.
وطبقاً لكتاب أستاذة العلوم السياسية، يحل جيمس سكوت في ثاني قائمتها لأبرز الأسماء العميلة بعد جيمس ب. غرانت (1922 - 1995) الذي قاد منظمة اليونيسيف في حقبة التسعينات. وقد قام سكوت أولاً بدور مهم ضد حراكات الطلاب ذات الميول الثورية الشيوعية في آسيا، وحصل مقابل ذلك على منصب رسمي في الاتحاد الوطني للطلبة في فرنسا وتضافرت جهوده الحثيثة مع مؤسسات مثل «مؤتمر الحرية الثقافية»، «لجنة الحقوقيين الدولية»، «إذاعة أوروبا الحرة»، وحتى «الاتحاد الأميركي للعمل» وهو من أكبر النقابات العُمالية ذات الإنفاق المالي الكبير على الليبراليين واليساريين في إطار احتواء خطر الشيوعية، بالإضافة إلى مؤسسات خيرية رائدة اخترقت المجتمع الآسيوي.
كيفية تأثير علاقات القوة في الصيغ الكلامية بين الأفراد


وفي إطار وظيفته الأكاديمية، قام سكوت بالتنظير وتفكيك المجتمعات الآسيوية في بورما وماليزيا ودراسة العوامل الموضوعية ومحاولة الإبقاء عليها أو إجراء عملية حلحلة للبنى الاجتماعية بما يتوافق مع المصالح الأميركية. ولم تغب فييتنام عن منظاره: عندما شغل منصب أستاذ مساعد في «جامعة ويسكونسن-ماديسون»، انصبّت دراساته ومحاضراته على الحراك الشعبي الفييتنامي هناك وتقديم استنتاجاته ومعالجاته حول الحرب وثورة الفلاحين.
وبعد هذه النبذة التاريخية عن سكوت، والإجابة عن تساؤلاتنا عن غائية الكتاب، نعود ثانية إلى مُتن الكتاب: المقاومة بالحيلة، فالقارئ سيجد بوضوح اعتماد سكوت على الاقتباسات الأدبية وتكثيفها. وهذا يمكن أن نضعه في خانة الجذب وجدانياً، عبر إشعار القارئ بمعاناة مُتخيلة للمقهور وصُنع مصداقية له ككاتب أنه في صفوف الفلاحين. لكن في الواقع ولمَن لا يعرف تاريخه، هو في صفوف الفلاحين لتفعيل وصنع آليات جديدة لحكمهم قهراً. فرغم أهمية الكتاب في فهم تصرفات المقهورين ولغتهم التي نجدها متشابهة مع واقعنا العربي، إلا أن الكتاب في مجمله واستنتاجاته مُقتصر على محاولة لفهم النكات والمسرح والإيماءات، وهذا قد يشكل مدلولاً فارغاً عن «مقاومة» لا تحصد أي نتائج.
ولا يعد هذه النقد مصادرة لحق القارئ العربي في تقييم الكتاب، بل لتوضيح آليات أشار إليها الكاتب في متن كتابه مثل «التمويه، والاستيهام، ثم السيطرة». ورغم نقد سكوت لهذه الآليات أو تفكيكها، إلا أنه يسقط قارئه فيها من البوابة الكبيرة والعنوان البرّاق «مقاومة بالحيلة».
إن سكوت يهدف بنقد الوعي الزائف إلى خلق وعي زائف آخر، ويريد توفير حيز اجتماعي بديل لا يهدف للتخلص من القهر، بل لخلق حيز اجتماعي محصّن من الشيوعية. وإن بقي فيه القهر بشكل أو بآخر، فهذا لا يعود يهم. أو بمعنى أدق يريد الوصول بالإنسان المقهور إلى حالة من التوازن عبر تخفيف حدة القهر -مثل قيام الدول الأوروبية وبعض الدول العربية بإصلاحات اجتماعية خوفاً من الأفكار الشيوعية- حتى لا يرتمي في أحضان الشيوعية ولا يخرج عن طوع الهيمنة الإمبريالية الأميركية المفترضة.
إن الحيلة وفنون التنكر برع بها جيمس سكوت إلى درجة أنه قام بإنتاج هذا العمل المهم عن المقاومة بالحيلة، لكي يخفي الحقيقة حتى عمَن يظنون أنهم قادرون على المقاومة بالحيلة!