ترجمتها عن الإنكليزية: ديانا خنافربلغة بسيطة وسريعة، متقطّعة أحياناً، دوّنت ماريا كارولينا دي خيسوس (1914 ـــ 1977) ملاحظاتها ومشاهداتها اليومية في الفافيلا. قالت ما قالته من الأسفل، بلسان الذين يعيشون في الأسفل. كأن الكاتبة البرازيليّة، وجدت هكذا وسيلة للنجاة من صراع البقاء اليومي في أحياء الصفيح وأحزمة البؤس في ساو باولو. كتبت عن نفسها، وعمن يبحثون في القمامة لكي يحظوا بقطعة لحم آخر النهار، ولو كانت عفنة. كتبت بفطرية سابقة لأي وعي أدبي، عن أن تكون سوداء وفقيرة، وأماً عازبة لثلاثة أطفال هم جواو، وخوان كارلوس وفيرا. بلا تنميق مراوغ، وصفت الجوع، والفقر، ومصائر النساء المعدومات، وذلك القلق اليومي والصباحي، تحديداً «خوفاً من ألا أقدر على جمع المال الكافي، من أجل الحصول على ما أسدّ به جوعي». معظم حياتها، عملت دي خيسوس كخادمة في البيوت، وفي جمع الخردة كي «تتغلّب على العبوديّة الحديثة: الجوع» وفق تعبيرها. الكاتبة التي تنحدر من عائلة عبيد، تعلّمت القراءة بنفسها، والكتابة التي صارت مرادفاً لوجودها واعترافاً به. بدأت دي خيسوس بكتابة يومياتها منذ الخمسينيات. لكنها تجاوزت يومياتها الفردية، لتصبح وثيقة عن الحياة في الفافيلا لدى نشرها عام 1960، بعدما اكتشفها صحافي بالصدفة حين كان يغطي حدثاً في تلك الأحياء. صدرت اليوميات بعنوان «طفلة العتمة» (1982)، وترجمت إلى لغات عالميّة عدّة، ما أتاح لماريا الانتقال من الفافيلا، والتفرّغ للكتابة في نهاية حياتها، فكتبت المسرحيات والشعر والقصص. هنا ترجمة لمقاطع من يومياتها

30 تمّوز (يوليو)
أخذتُ 15 كروزيروساً* ومررت بصانع الأحذية لأرى إن كان قد انتهى من تصليح حذاء فيرا، فلا تنفكّ تتذمّر كلّما مشت حافية القدمين. لحسن الحظ، وجدت الحذاء جاهزاً وأحضرته معي إلى البيت. سارعت فيرا إلى انتعاله وهي لا تتوقّف عن الابتسام. وأنا وقفت أشاهد تلك الابتسامة التي لا تعرف شفتاي مذاقها. التقيت بروزالينا التي كانت تتجادل مع هيليو. من جهة، لا يريد هيليو أن يعترف على الملأ أنه وأولغا مجبران على التسول. ومن جهة أخرى، قالت روزالينا إنّها تعتني بأولادها الثلاثة وحدها. لكنها لا تعرف أنّ ابنها سيلسو يُخبر الجميع بخطّته للهروب من المنزل لأنّه يكرهها، لأنه يمقت بخلها وشخصيتها الفظّة. عندما أسرّ لي سيلسو كم أنه يتمنّى أن يكون ابني، قلت له: «لو كنت أنا أمّك التي ولدتك، لكنتَ أسود اللون. لكن بما أنّك ابن روزالينا، فأنت أبيض البشرة». فأجابني: «لكن إذا كنت ابنك، فلن أشعر بالجوع أبداً. ماما تحضر لنا قطع الخبز القاسي وتجبرنا على التهامها كلّها، حتى الفتات اليابس، إلى أن تفرغ تماماً». بدأت أفكر في الأطفال التعساء الذين، رغم صغر حجمهم، يشكون الحياة ومصاعبها. يقولون إن الأميرة مارغريت في إنكلترا لا تحبّ أن تكون أميرة. هكذا هي حياة البشر.
■ ■ ■


2 آب (أغسطس)
ألبستُ الأولاد ثيابهم وأرسلتهم إلى المدرسة. خرجت من المنزل وتجوّلت في الحيّ، محاولةً إيجاد عملٍ ما لتحصيل بعض النقود. مررت بالمسلخ وجمعت حفنة من العظام. رأيت عدداً من النساء ينبشن في القمامة بحثاً عن قطعٍ اللحم. ادّعين أنها لإطعام الكلاب. أوليس هذا ما أقوله أنا دائماً؟ إنها للكلاب فحسب...
■ ■ ■


6 آب (أغسطس)
حضّرت فنجاني قهوة لكلّ من جواو وخوسيه كارلوس. اليوم عيد ميلاد خوسيه العاشر. لم يكن بمقدوري إلّا أن أهديه معايدتي وأمنياتي الطيبة. فلست أكيدة حتّى إن كنّا سنتناول الطعام اليوم.
■ ■ ■


16 آب (أغسطس)
توقّفتُ عند صانع الأحذية. بدا سينيور جاكو متوتّراً. تمنّى لو أنّ الشيوعية هي النظام السائد في البلاد، لكانت حياته عندئذ أحسن حالاً، فكلّ الأرباح التي يحققها متجره ليست كافية لتسديد مصاريفه. في الأيّام الخوالي، كان العمّال هم الذين يطالبون بالشيوعية. أمّا الآن، فأرباب العمل فهم الذين يحلمون بأمجادها. الأحوال المعيشية تستنزف العمال وتجرّدهم من عاطفتهم تجاه الديمقراطية. كان كيس الورق ثقيلاً للغاية، فهرع أحد العمّال وساعدني في رفعه. في الفترة الأخيرة، لم أعد أشعر بكتفي الأيسر المليء بالكدمات بسبب كلّ الأكياس التي حملتها. بينما كنت أسير في شارع تيرادينتيس، خرج بعض العمّال من المصنع وقالوا لي: «كارولينا! تحبّين الكتابة، أليس كذلك؟ لماذا لا تحثّين الناس على المطالبة بنظام آخر؟». سألني عامل آخر: «هل صحيح أنّكِ تأكلين كل ما تجدينه في القمامة؟». فأجبته: «الوضع المعيشي يجبرنا على القبول بأي شيء. علينا أن نقلّد الحيوانات».
■ ■ ■


18 آب (أغسطس)
لا أحب أن أفوّت أياً من أيام الاثنين. لذلك أخرج باكراً من المنزل، فدائماً ما أجد أشياء كثيرة في القمامة. غادرت مع فيرا. يغمرني شعور بالأسف على ابنتي! ذهبنا إلى الدونا خوليتا لأجمع الورق من منزلها. كمية اليوم تساوي 55 كروزيروساً. ماذا يمكنني أن أشتري بهذا المبلغ؟ تملّكني شعورٌ بالتوتر. عندما وصلنا إلى المنزل، رميت بنفسي على السرير من شدّة التعب، فقد حملت اليوم حوالى ثلاثين كيلوغراماً من الخردة وعلب التنك. كلّها على رأسي. ذهبت مع فيرا بعد استراحتي القصيرة إلى روزالينا لأستعير عربتها وأجرّ الخردة التي جمعتها إلى المكبّ. أعارتني إيّاها وملأتها. شعرتُ برعشة برد. استقبلني سينيور مانويل بمودّة ما إن وصلنا إلى المكبّ. بعدما قمنا بوزن الخردة، أعطاني 191 كروزيروساً. توجهت بعدها إلى «مخبز غيني» واشتريت حبة واحدة من فاكهة الغوارانا وبعض الموز. وضعت فيرا في العربة وجررتها طوال الطريق. وصلت منهكة إلى الفافيلا**. قال لي جواو: «الآن بعدما حصلتِ على بعض المال، يمكنني أن أقلع سنّي، لأنها تؤلمني». قلتُ له أن يلبس ويغسل قدميه.
■ ■ ■


19 آب (أغسطس)
عجزتُ عن النوم، فغادرت فراشي لأحضر الماء*** والتوتّر يعتريني. كم تبدو فيرا سعيدة بجوز الصندل الذي اشتريته لها. فقد كانت تبكي هذا الصباح بسبب الثقوب التي عادت وتوسّعت في حذائها.
■ ■ ■


21 آب (أغسطس)
حضّرت القهوة وجعلت الأطفال يغتسلون كي يذهبوا إلى المدرسة. بعدها خرجت مع فيرا لجمع الورق. مررت بالمسلخ ودخلت فيرا تتوسّل إلى اللحام لكي يعطيها قطعة نقانق. لم أجنِ إلا 55 كروزيروساً اليوم. عندما عدنا إلى الفافيلا، جلست أفكر في حياتي. البيض هم النسبة المهيمنة في البرازيل، لكنهم يحتاجون إلى السود في مختلف نواحي حياتهم، والسود كذلك بحاجةٍ إلى البيض. بينما كنت أهمّ بتحضير العشاء، سمعت خوانا تناديني طالبةً بعضاً من الثوم. أعطيتها خمسة فصوص. من ثمّ اكتشفت أن الملح نفد لدي، فأعطتني خوانا القليل.
■ ■ ■


19 أيلول (سبتمبر)
لم يعد أصحاب المسلخ يرمون قمامتهم في الشارع بسبب النساء اللواتي ينبشنها بحثاً عن قطع اللحم العفن لسدّ جوعهن.
■ ■ ■


3 تشرين الأوّل (أكتوبر)
نهضت من الفراش في الخامسة صباحاً، فاليوم موعد التصويت. الشوارع مليئة ببطاقات الاقتراع المرمية على الأرض. بدأت أفكر في ظاهرة الإسراف والتبذير التي تخلفّها فترة الانتخابات في البرازيل. أعتقد أنّ عملية التصويت أكثر صعوبة من تقديم طلبات الترشيح. وصلت لأجدَ صفّاً طويلاً من الناخبين ينتظرون دورهم للاقتراع. بدأت فيرا بالبكاء من شدّة الجوع. نبّهني الرجل المسؤول الجالس على الطاولة أنه لا يمكن إحضار الأطفال إلى الانتخابات، فأجبته أنه ما من أحد لكي أدع ابنتي معه.
■ ■ ■


7 تشرين الأوّل (أكتوبر)
مات طفلٌ هنا في الفافيلا. لم يمض أكثر من شهرين في هذا العالم. لو بقي على قيد الحياة لافترس الجوع جسده الصغير.
■ ■ ■


16 تشرين الأول (أكتوبر)
تعلمون جيّداً أنني أذهب لإحضار الماء كلّ صباح. الآن سأقوم بتعديل طفيف على أسلوبي في كتابة هذه المذكرات وأكتفي بتدوين ما يحصل معي خلال النهار.
■ ■ ■


6 تشرين الثاني (نوفمبر)
كانت الساعة الثامنة والنصف صباحاً عندما وصلتُ إلى منزل دونا خوليتا. قدّمت لي فنجاناً من القهوة. قالت فيرا إنها ترغب في العيش في منزلٍ يشبه بيت دونا خوليتا. من ثمّ أعدّت دونا الغداء، وعندما انتهت فيرا من تناول صحنها، صاحت: أكل طيّب. أمّا أنا فأصابني طعام دونا خوليتا بالدوار. بعد انتهاء الجميع من تناول الطعام، أعطتني دونا الصابون والجبن والسمن والأرز. ذاك الأرزّ ذو الحبة الطويلة والرفيعة كالإبرة. أرزّ الأغنياء.
■ ■ ■


28 كانون الأول (ديسمبر)
أشعلتُ النار، ووضعتُ قدر الماء لتغلي، وبدأت بغسل الصحون فيما رحت أتفحّص الجدران. وجدت فأراً ميتاً في الزاوية. أمضيت أيّاماً في ملاحقته بلا جدوى، ونصبت له فخّاً. لكن قطة سوداء هي التي نالت من الفأر في النهاية. قطة سينيور أنطونيو ساباتيرو. إنها قطة حكيمة، لا تُبدي أيّ مشاعر حبّ عميقة تجاه البشر ولا تسمح لأيٍّ كان بأن يستعبدها. وعندما تترك منزلها، لا تعود أبداً، كإثبات على امتلاكها عقلاً مستقلّاً وكياناً خاصاً بها. أكتب عن قطة فقط لأنني سعيدة أنها قتلت الفأر الذي كان يتلف كتبي ويقضم أوراقها.

* كروزيروس (cruzeiros): العملة المعتمدة في البرازيل قبل عام 1994.
** الفافيلا (favela): بالبرتغالية، هي مدن الصفيح والأحياء العشوائية التي تنتشر في أطراف المدن البرازيلية.
*** يصطفّ سكان الفافيلا يوميّاً في طوابير لتعبئة المياه، وعادةً ما تتحلّق النسوة حول صنبور السقايات العمومية.