«سجون نختار أن نحيا فيها» (1986) هو عنوان الكتاب الذي صدر أخيراً لصاحبة نوبل دوريس ليسينغ (1919 ــ 2013) بترجمة سهير صبري («المركز القومي للترجمة» ــ «دار العين»). يضمّ المؤلّف خمس محاضرات: «عندما ينظرون إلينا من المستقبل»، «أنتم ملعونون... ونحن ناجون»، و«الانصراف إلى مشاهدة المسلسل»، و«عقل الجماعة»، و«مختبرات التغيير الاجتماعي»، قدّمتها ليسينغ ضمن «محاضرات ماسي الشهيرة»، وبثّتها الإذاعة الكندية عام 1985. وفيها، تنطلق صاحبة «العشب يغني» من سؤال كبير حول تاريخ العنف الإنساني الذي يحكم مصير الشعوب والمجتمعات، وتدلّ على التفكير المحدود بواقعة في زيمبابوي أوائل القرن العشرين حيث اشترى فلاح ثوراً بمبلغ ضخم، كان مدعاة للفُرجة من أهل البلد، إلى أن قتل الثور صبياً، فأصرّ صاحبه على إعدامه عقاباً له. تتطرّق ليسينغ إلى مفهوم العقوبة كثأر حيواني عملت به المجتمعات حتى وقتها وصنعت منه قوانينها العمياء عن عدالة اجتماعية. تصيغ مفهوم الاستمتاع بالحرب التي يخجل أي من الكتاب أو المدافعين عن قضايا السلام والشيوعيين التحدث عنه. تستشهد بما فعلته الحركات الاشتراكية في أوروبا وأميركا قبل الحرب العالمية الأولى حين اجتمعت وأقرت أنّ الحركات الرأسمالية تزكي نار الحرب وأنها وطبقاتها الكادحة ليس لها فيها ناقة أو جمل. لكن عندما اندلعت الحرب، سقطت كل الشعارات وشاركت هذه الحركات فيها. تشير ليسينغ إلى أن شعوراً سرياً بالانتشاء غير المعترف به يبدأ حين تقترب الحرب وتتفشى إثارة عنيفة مخيفة محرّمة في كل اتجاه، هذا الشعور يستحوذ على الآخرين. وهو ما يسمى بالارتداد إلى الأصل الحيواني للإنسان حيث فرصته للمراوغة والقنص والتحزب.
من هذه النقطة تشير ليسينغ إلى الإنسان باعتباره حيواناً اجتماعياً، يسلك طريقه داخل الجماعة، بكل أفكارها الخاطئة والبالية. ستتطرق إلى سعي الإنسان الدائم لتكوين جماعات القوى والهيمنة، تستخدم الدين أو أفكار الدوغما كأيديولوجيا تحرك وتستوعب الأفراد وتكون مع الوقت يقينيات عاطفية يصعب الخروج عنها. تقول ليسينغ إنّ الحركات السياسية المغلقة مثل الشيوعية والنازية والفاشية وغيرها ورثت بنية الفكر المسيحي واستخدمت بعض شعاراته. وفي مقاربة بين المسيحية والشيوعية، أشارت إلى سمات الرجل المسيحي الذي يرى نفسه ضحية معذبة تنتظر الخلاص وأن هذا يتحقق في عالم آخر يعم فيه السلام والنعيم، وهو نفس ما تعد به الشيوعية طبقاتها الكادحة من الانتقال من سطوة العالم الرأسمالي الشرير إلى مدينة اليوتوبيا. أما سمة المسيحية في الانقسام إلى طوائف ومحاربة بعضها بعضاً، فهو، برأيها، السلوك نفسه الذي تمارسه الحركات اليسارية في أي بلد وجدت فيه.
تتحدث الكاتبة البريطانيّة عن الإرهاب الاجتماعي وأحياناً المادي الذي تمارسه الجماعات على الأقليات المخالفة لها أو العنف الأكبر على المنشقين عنها باعتبارهم خونة، مشيرة إلى تاريخ طويل من عنف الجماعات في أوروبا، خاصة الكنيسة، لمدة ألفي عام لم تسمح بنسق مختلف من التفكير وبترت المؤثرات الخارجية ولم تتردّد في القتل والإبادة والاضطهاد والحرق والتعذيب باسم الرب.
تتوقّف ليسينغ عند الأساليب الحديثة التي تستخدمها الجماعات الحاكمة للهيمنة والتأثير على الرأي العام، غير القمع. هناك عمليات غسل الدماغ التي تستخدم فيها الحكومات المعلومات المتاحة عن الأفراد لمعرفة أهوائهم ورغباتهم. مثل هذا الدور، كانت تؤدّيه أجهزة الاستخبارات التي اخترعتها الحكومات لمصلحة السلطة أولاً قبل الترويج لها بدور حامٍ للبلاد. كانت ليسينغ واعية لذلك وهي تلقي المحاضرات في الثمانينات، قبل ظهور الإنترنت وبيع الشركات الكبرى على الإنترنت معلومات الأفراد للحكومات.
وهو الدور نفسه الذي لعبته منصات التواصل الاجتماعي حديثاً لدفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية الأخيرة، وقد تحدثت عنه ليسينغ في حملة انتخابات مارغريت تاتشر التي صممت حملتها الانتخابية كل التفاصيل من الإيماءة الأولى، إلى الدخول والخروج حتى ألوان الملابس التي ارتدتها وفقاً لوصفة اجتماعية متطورة بينما كان منافسها مايكل فوت ــ رغم نزاهته ــ يصفق نافذة القطار في وجه الصحافيين.
ترى أنّ الحركات السياسية المغلقة مثل الشيوعية والنازية والفاشية ورثت بنية الفكر المسيحي


في مؤلّفها، تشير إلى قوّة العقل الجمعي الذي يسيّر كل شيء. للجماعة نسق معين للتفكير، تكون الاختلافات داخله طفيفة، فيما يبقى كل ما خارجه مستهجناً وموصوماً. تتحدث هنا عن تجربة شخصية أجرتها، حين نشرت كتابين باسم مستعار هو جين سومرز لاختبار دورة حياتهما، فرفضا من دور النشر التي تتعامل معها ليسينغ ولم يتم الاحتفاء بهما إلا عندما عُرفت خدعتها الصغيرة، ما دفعها إلى القول «انظر كيف يتبنى الجميع موقفاً ما إزاء كاتب أو كتاب معين، الكل يقول الأشياء نفسها، تقريظاً كانت أو تثريباً.... يستغل الناشرون هذه الآلية طوال الوقت، فعندما يحين موعد إطلاق كتاب جديد، يبحث الناشر عن كاتب له ثقله لمدحه، بالضرورة هذا الاسم يقول إن العمل جيد فيحاط بالمحررين الأدبيين وتطلق المراجعات في الصحف المرموقة».
رغم هذه الصورة القاتمة، ترى ليسينغ أن العالم يتغيّر دائماً إلى الأحسن، وتدلّ على ذلك بما حدث للاتحاد السوفييتي الذي ـ رغم قبضته المحكمة ـ نمت من داخله طبقة استطاعت التغيير. برأيها إن مفاهيم مثل الديمقراطية واحتكام الأفراد للقانون كانت أفكاراً خيالية منذ أربعة أو خمسة عقود.
تعلّق ليسينغ آمالها في عملية الإصلاح على العلوم الناعمة مثل التاريخ وعلم الاجتماع والانثربولوجيا والأدب الذي تعتبره فرعاً منها يكشف حياة الشعوب وطريقة تفكيرهم في وقت ما لفهم البشرية وإصلاحها. وتؤكد على التطور الحاصل للإنسانية باستمرار، بقولها: «لا وجود لشيء يقول إني أقف في الجانب الصواب، لأنه في غضون جيل أو جيلين، من المحتم أن تصبح طريقة تفكيري الحالية إما مدعاة للسخرية بدرجة ما أو بالية بفعل التطورات الجديدة على أحسن تقدير، تصبح شيئاً تبدل بكل العواطف التي بذلت إلى حصة ضئيلة في عملية عظيمة هي التطور. وخولت هذه العملية للفرد والأقلية التي تحمل أفكاراً مختلفة تستهجن في البداية لكن مع الوقت تقبل وتسود».