الجزائر العاصمة كانت تشبه كهلاً في قيلولة. مدينة بعنق ملتوية كما وصفها جان سيناك ذات يوم. قبل أن تستقيم في مشيتها وتطلّ برأسها على الشّمس. عاصمة البلد فرغت من تراخيها، والجمعة الذي كان يوماً للخمول، يبدأ بمقاه مغلقة من ديدوش مراد إلى ساحة بورسعيد، وينتهي قبل الغروب بضجر جماعي، تحوّل إلى يوم حراك. عشية 22 فبراير الماضي، لم يكن أكثر المُتفائلين يتوقّع أن يخرج الناس بالآلاف إلى الشارع، تعبيراً عن رفضهم لترشح رئيس، منتهية ولايته، إلى عهدة خامسة. ساد اعتقاد أن الشباب الذين أغراهم تطبيق «تيك توك» ولم تكن تحرّك غيرتهم سوى مباريات «البارسا» والريال لا علاقة لهم بالسياسة، ولا يهمّهم من يحكم من أمام الستار ومن خلفه. لكن المفاجأة حصلت، وخرج العاصميون ضدّ استمرارية التاريخ وتكراره.
في صباح 22 فبراير، اتّصلت بي جازية من عنابة؛ «الوضع هادئ وأعين الناس تتحرّش بالعابرين. الشرطة في دورية تطوّق وسط المدينة وقلق يريد أن يتفتق». لم أردّ عليها بكلمات متحمّسة، فعنابة تغيّرت كثيراً، أضف إلى ذلك أن سادتها كانوا من الأوائل الذين فتحوا مهرجان الترويج لعهدة خامسة للرئيس. «لن ينفع شيء إذا لم تخرج عاصمة البلد إلى الشارع» أجبتها. بعد نصف ساعة، كانت عنابة قد تهيّأت لمظاهرات شعبية، وأطلقت جازية بثاً على المباشر، من حسابها على فايسبوك.
سلوى تخبرني أن اختيار الجمعة يوماً للاحتجاج، وبعد الصلاة، إنما الغرض منه فسح المجال للجماعات المتديّنة كي تُتمّ فرضها مع الله وتركب غضب الناس ضدّ السلطة. لم يتحقّق توقّعها، وفهمت – لاحقاً – أن النداءات للمظاهرات يوم الجمعة كان وراءها «ألتراس»، أولئك الشباب الذين طالما صوّرتهم الآلة الرسمية بأنهم وقود سوق المخدرات وسلع جاهزة لركوب قوارب مطاطية للهجرة غير الشرعية إلى إسبانيا أو إيطاليا.
قد نصدّق أن مُعارضة الرئيس الحالي بدأت مع إعلان مؤيديه ترشيحه لعهدة خامسة، في تجمع احتضنته قاعة بناها أوسكار نيماير، قبل أربعة عقود ويزيد، عندما فرّ من العسكر في البرازيل ووجد ملجأ في الجزائر، لكن الحقيقة أن المعارضة بدأت من مدرجات ملاعب الكرة، ولا سيما بين مشجعي اتحاد العاصمة، أو من يُطلق عليهم ازدراءً «المسامعية» (النساء اللواتي يغنين في الأعراس). هم من أطلقوا أغنيات مثل «بابور اللوح» و«كازا دا المرادية»، وهم أكثر ألتراس تنظيماً وقدرة على التأثير، وهم الذين خرجوا أولاً وردّدوا أهازيجهم، ورافقهم شباب آخرون، يردّدون من وراءهم: «ماكانش الخامسة يا بوتفليقة، جيبو البي.أري.أي وزيدو الصّاعقة» (اسما فرقتين أمنيتين).
لم يكن الخروج إلى الشارع أمراً مربكاً للشرطة، فقد تدرّبوا على التعامل مع وضعيات مماثلة، لكن المربك هو سلمية المظاهرات، وهدم صنم أن الجزائري عنيف بطبعه ومزاجي. بدأت الأفواج الأولى تتحلّق حول ساحة أول ماي، والتحق بهم آخرون من شارع بلوزداد الشعبي، بينما تجمّع آخرون في ساحة أودان، وبدأ السير ضدّ الحكم المطلق. نشرت سلوى صوراً أولى وعلّقت: «العاصمة تنتفض». أغنيات وشعارات وأعناق تشرئب ولا تنظر سوى إلى الأمام. بعضهم يرفع قبضة يده كما لو أنها «سهام تبتغي السماء» كما كتب جمال عمراني. بدا كما لو أن كلّ شيء مخطّط له، مع أن كلّ شيء جاء بعفوية، في مدينة موشومة بالأمن، بأصحاب البزّة الزرقاء، حيث لا يمكن أن نقطع أكثر من ثلاثة كيلومترات من دون أن نلمح شرطياً في الجوار. وظهر بين الجموع موسى حداد وقد قارب الثانية والثمانين من العمر. لا يكاد يوجد جزائري واحد لم يُشاهد فيلمه «عطلة المفتش الطاهر»، ولا ننسى أنه كان مساعد مخرج في فيلم «معركة الجزائر».
بينما بدأت الشوارع تعجّ بالمتظاهرين، كان آخرون في الشرفات أو في بيوتهم، يترقّبون، يتكوّرون مثل قنافذ، وينتظرون إشارة كي يلتحقوا بهم. توالت الفيديوات والصّور على فايسبوك، دون غيره من وسائل التواصل الأخرى، فالجزائريون لهم علاقة سيئة مع تويتر مثلاً، لا يثقون به. واتّسعت بقعة الزيت. تحوّلت الصورة إلى مهرجان مفتوح على الغناء وعلى ترديد المكنونات، وتسمية الأشياء بمسمياتها. انتظرنا أن تتدخّل الشرطة في أي لحظة، تناسقاً مع المنطق البوليسي للجماعة الحاكمة، والتي تميل إلى القمع بدل المحاورة، لكن لا شيء حصل، ولم يمنحهم المتظاهرون فرصة. تمت الأمور في سلمية، ولكن نقطة سوداء عكّرت المشهد: أين هي القنوات التلفزيونية الخاصّة؟ لماذا لم تحضر؟ فهذه القنوات كانت دائماً تنصب كاميرات في الساحات العامّة، وتتحرّش بالمارّة بطرح أسئلة جافّة، من قبيل: ما رأيك في عيد الحبّ؟ أو هل تقبّل أن تتزوّج امرأة مطلّقة؟
لاحقاً، علمنا أن الأخ الأكبر تنبّأ بالزّلزال، وأبرق بأوامر إلى القنوات الخاصّة بعدم نقل المظاهرات، وأن لا تتحدّث عنها في نشراتها سوى بحذر. ومن يُمانع تسحب منه الإعلانات ويهدّده الإفلاس. لكن هل نحتاج إلى تلفزيونات في زمن السوشال ميديا؟ الجواب يظلّ نسبياً، لأن المظاهرات صوّرت وتداولها الإعلام الخارجي. عندما انتهت المظاهرات في يومها الأول، طفا أمل. سألتني جازية وهي تستعيد أنفاسها من كثرة المشي: «هل يعدل الرئيس عن رأيه ولا يودع ملف ترشّحه؟». ألحّت على أن تكون الإجابة نعم.

* روائي وصحافي جزائري