ظلّ المعماري معاذ الآلوسي (1938) المولود في أحد أحياء بغداد القديمة التاريخية، حريصاً على صلة روحية بالأمكنة البغدادية العتيقة على الرغم من عمله القائم على التحديث والمستند إلى ذخيرة من معرفة الحداثة الغربية هندسةً وثقافةً. درس العمارة في «جامعة الشرق الأوسط» في أنقرة التركية. وفي عام 1961، عاد إلى بغداد، بعد جولات عمل استكشافية قادته إلى إيطاليا وألمانيا، لينضم إلى «ورشة الحداثة المعمارية والثقافية» في العراق، التي مثّلها «مكتب الاستشاري العراقي». لكنه ما سيلبث أن يتركه ويغادر إلى بيروت عام 1974، ليؤسس هناك مكتب «الدراسات الفنية»، ولاحقاً مكتب «الآلوسي ومشاركوه» في قبرص، والإقامة هناك. اختار الآلوسي الإقامة في بيروت في الوقت الذي ذهب فيه اللبنانيون إلى الحرب الأهلية، مشتغلاً في الفن والهندسة. انفتحت مدن الخليج على أعماله المهمّة في العمارة من بينها: «مشروع المصرف المركزي»، و«البنك العربي» و«سفارة الإمارات العربية المتحدة»، والسفارة القطرية و«مركز صلالة الثقافي» في سلطنة عمان، و«البنك العربي الأفريقي» و«مطبعة دار القبس» و«مركز الدراسات المصرفية» في الكويت، و«السفارة الكويتية» في البحرين. لكنه ظل أسير بغداد من اتجاهات عدة، فكتب عنها ثلاثيته فيما يشبه التحايا العميقات: «نوستوس ـــ حكاية شارع في بغداد» الذي عرض فيه مشروعه المعماري الكبير «شارع حيفا» وسط بغداد، و«توبوس ـ حكاية زمان ومكان» أو «وثيقة التملك العقاري» (طابو) لبغداد بوصفها مكاناً متحضراً، و«ذروموس ــ حكاية مهنة» الصادر أخيراً عن «دار الأديب» العراقية في عمّان. عن سيرة تنتمي بقوة للعمارة بوصفها مرآة اجتماعية ثقافية وحال حبيبته بغداد اليوم، كان هذا الحوار مع الآلوسي.
على الرغم من أن كتابك الأخير «ذروموس» مكرّس لوقائع مهنتك كمعمار، إلا أنه ظل منتمياً بقوة لنهجك في كتابيك الأول والثاني ضمن ثلاثيتك عن العمارة، أي نهج التعبير الاجتماعي، أو بعبارة أخرى تقديمك العمارة بوصفها مرآة اجتماعية، كأنك تشرّح السياسات الثورية التي أنهكت المجتمع وفككت أركان الدولة العراقية. هل يمكن قراءة العمارة العراقية المعاصرة بكونها جانباً من حلم ضائع لتحديث البلاد وإنسانها؟
- نعم، كتبي الثلاثة مكرسة لسدّ فجوة شاسعة في التواصل بين المعمار والمجموع. وتستغرب إذا قلت إنّ الفجوة اتسعت حتى بين أصحاب المهنة أي بين مَن يدّعون لنفسهم أحقيّة الممارسة. محاولتي هنا هي تصحيح مسار العمارة بعدما شطّت وهزلت. المستهدف من هذه المحاولة، هم الأجيال القادمة وشباب اليوم. حالتي في اللجوء إلى التدوين والكتابة، والصراخ خلال محاضراتي ومداخلاتي كـ «دون كيخوته»، تشبه حال النخبة الألمانية «جماعة 47» في منشوراتهم وكتبهم، وخصوصاً في جريدتهم Der Ruf أي «الصرخة» حيث حاولوا التكفير عن جرائم الحروب التي سبّبها الألمان، والتشوّه والقباحة التي صاحبت هذه الحروب.


نعم القباحة والتشويه تصاحب الأحداث والحروب في العراق منذ عقود عدة، وضمن متوالية رياضية أي في تزايد. التدهور يتضخم، يزداد ولا يتوقف. وخوفاً من ذلك، بدأت محاولتي في الحفاظ على ما كان في يوم ما، ولا أقول إيقاف هذا التدهور لأنّ الأمر فوق استطاعتي. ولذلك، أردته في «توبوس» صك «طابو» أسلّمه وأورثه لأجيال قادمة. عسى ولعل، يظهر مَن يتلقّفه ويحاول أولاً استيعاب ما كان عليه تراكم أهله المعرفي وما كانت عليه تقاليده الأصيلة. بالنسبة إليّ، العمارة نمط عيش مثالي، وسلوك متمدن يسبغ سعادة وهناء على مجتمعه، بخاصة على الإنسان البسيط الذي على الدوام في حاجة للعيش الكريم، وهو ديدني دائماً. المعمار يتعامل مع البشر بدل الحجر. لكنّ هذا التعامل فُقد في حاضرنا الجديد.

كيف أسهمت بل شجّعت السياسات المتعاقبة في تدهور الحالة السائدة؟
- أولاً هي، أي السلطة لم تكن بعد مهيأة ثقافياً لاستيعاب حجم التدهور، بل إنّها لم تشعر به أصلاً، بل غذته لأنّ مصلحتها تكمن في هذا التدهور. عندما تركت البلد في أوائل عام ١٩٧٤، كان في نعيم مقارنة بيومنا هذا. إلا أنّي شعرت بسوء التوجه. فالحرية الشخصية محدّدة بما تريده السلطة. والرقيب يحمل بيده منجلاً أكبر من المقص. المجلات منتقاة، والكتب كلماتها تمر من منخل ناعم جداً، والمناهج الدراسية غدت ممجوجة. بدل النشيد ودراسة الفنون، طغى درس الوطنية والدين. التثاقف كان للنخبة. والعشوائية في المناطق الحضرية صارت أشبه بالتسونامي. هجوم ريفي هائل. والسلطة غافلة عن حجم المشكلة، مسطولة بقوتها العسكرية، فبناء البشر والإنسان ليس في حسبانها. في حينه، استشفيت التدهور القادم، مما جعلني أهرب قدماً حتى أتمكن من ممارسة حريتي المكتسبة والأساسية في مسايرة الركب الإنساني في التمدن، وفي الحواضر المتقدمة والمتحضرة، بعيداً عن سوء استعمال السلطة إن كانت سياسية أو دينية أو عشائرية. هنا لا أستثني أياً من الأحزاب السياسية. خفت على حلمي في المعاصرة من الضياع.
لم أكن أحلم، بل كنت وبإصرار أريد أن أقرأ ما أبتغيه وآكل وأشرب ما أشتهيه، وأرى وأساير ما يمتع العين والذهن. وأعبث بقدر ما أستطيع. وطن وزمن لا يوفّران حقوقي المكتسبة هذه، ليسا وطني ولا زمني. وطن سائر إلى ما هو عليه الآن، وأنا لا أريد أن أكون شاهد زور ومشاركاً في التشويه والفوضى. إذن الكتب الثلاثة هي مشاركة منّي لأثبت وجود مكان وزمان كنا نفتخر بهما، مشاركة مني مع الغير الآخر عسى ولعل يستفاد من معاناتي.

أوليتَ الترييف وانتقاله من الجانب الاجتماعي إلى السياسي، اهتماماً خاصاً وجعلته نقداً ثقافياً بارزاً. هل كان العقل الريفي للسلطة العراقية، هو بداية نهاية حلم الحداثة عند جيلكم من المعماريين والفنانين والمثقفين؟
- نعم الترييف. لقد عاصرتُ هذه المشكلة منذ بداية الستينات. كنتُ فاعلاً وشاهداً على تأسيس أكبر عشوائية كوني كنت موظفاً في مديرية الإسكان لتهيئة «مشروع مدينة الثورة»، وهذا كان اسمه ملهاة السياسيين على اختلاف توجهاتهم. يميناً ويساراً ووسطاً، تشترك السلطة في إهمالها للريف. لم أجد بين مناهج التطوير أي جهة كانت في صدد وضع مخطط أساسي لتطوير الريف. مخطط يرتقي بالبنية التحتية ليقلّص الجذب الجارف من مركز المدينة، الذي كان في يوم ما أكثر تقدماً في توفير العيش الجيد.
وهنا، لا أنتقص من قيم الريف الوديع الجميل وخاصة العراقي الأخضر وموروثاته المتراكمة. لكنها لا تصلح للمدينة ولا تتصالح معها. تناقض كبير في نمط العيش. تبيّن لنا نحن المخططين مدى الخطأ الذي أصاب النسيج المديني وكيف أصبح هذا التناقض عائقاً أمام وضع أي تخطيط استراتيجي مستدام. تأثير الهجرة على المناطق الحضرية، وتأثير القنابل الهيدروجينية، والجذب/ الهجرة من الريف إلى المدينة... كلها عوامل دمّرت النسيج الحضري للمدينة الحاضرة. ولم تتوقف المتوالية التدميرية إلى يومنا هذا. تساوى الريف المتروك المظلوم مع المدينة في تلاشي الخدمات والافتقار إلى البيئة الصحية. المدينة أصبحت كالريف. والأتعس أنّها ذات كثافة سكانية مخيفة، وبمتطلبات ذات حجوم هائلة. لذا تهشّمت البنية التحتية وتردّى مستوى المعيشة، وتهشم وتريّف المجتمع بكافة أوجهه. نضيف إلى هذا، تفريغ المجتمعات المدنية، وتريّف أهل المدينة وتهجيرهم إلى مخيمات جراء حروب عبثية، كما حدث في حزام بغداد والموصل والبصرة.
تتلاشى القيم المدينية عندما تتريّف المدن مع سيادة وطغيان قيم الدين والريف في الملبس والتصرف اليومي وحتى في سيادة الذائقة الجمعية


في جميع الأحوال ولأجيال مضت، لم نعمل في المنطقة ــــ وليس في العراق فقط ـــ على صياغة وصقل الفرد سواء في الريف أو في المدينة. التزمنا بتقاليد وعادات بالية عمرها قرون.
بالنسبة إليّ، وقبل فترة، اكتشفت أنّ انتمائي كان نخبوياً كاذباً. أنا في واد وأهلي على امتداد البلاد في واد آخر. أنا محصور في مجتمع نخبوي محدود، ولا أقول فئة صغيرة، وباقي البشر، وهم الأكثرية، تحت خط الكرامة وفق العيش المتحضر. نحن وبإصرار لم نحاول تعديل أو تأهيل المعتقدات وتصفية التقاليد المجتمعية من الشوائب المعوقة لبناء الإنسان الحديث ومواكبته لمنجزات البشر. حتى هذه النخبة لم يفسح لها المجال في المساهمة في بناء المواطن والوطن. المثقف في بلادي مطارد. لا يحق له القراءة، ولا التصرف بحرية. هناك بوابات إلكترونية/ فرعونية عليه المرور منها كي يتمتع بقدر قليل من الحرية، واحدة دينية والأخرى انتهازية سياسية. والمصيبة أنّ الاثنتين يحرسهما الجهلة المتخلفون.
تتلاشى القيم المدينية عندما تتريّف المدن. تنعدم مع سيادة وطغيان قيم الدين والريف في الملبس والتصرف اليومي وحتى في سيادة الذائقة الجمعية. والآن في بغداد، تريّفت السلطة بحالها. مثلاً، لننظر إلى المجلس النيابي، للمدنيين نائبان فقط! وانظر إلى ما يحدث في أمانة العاصمة، حيث إجازات بناء لتحويل مناطق سكنية مثالية إلى بؤر استيطانية بكثافة سكانية عالية جداً. انعدمت الفسح الخضراء والمحلات العامة التي هي جوهر العيش الحضري واستعيض عنها بتشييد منشآت ونصب ساذجة جداً لا تنم على كون هذا البلد هو ذاته الذي مرّ بتلك النشوة الثقافية. هكذا تغرّبت وتغجّرت الحياة البغدادية الأصيلة. النشوة والصحوة الثقافية كانتا نابعتين من الأصالة البغدادية. كانت المدينة ذات هوية تتفاخر بها وتبزّ غيرها في ابتداع نمط عيش متمدن ذي هوية مميزة. صار الردح والهز ثقافة وهوية بلد، لا نستغرب يوماً بأن تصبح الأبوذية أو «الچوبي» ـ مع احترامي الكبير للموسيقى الريفية ــ نشيداً وطنياً. والأكثرية مطّنشة.

تقول «ها هي العمارة تصاب بالتفاهة بعد خراب الوطن»، متى بدأت العمارة العراقية تذهب إلى التفاهة وكيف؟
- قد تكون ممارسة العمارة أكثر أوجه التمدن حاجةً إلى مواكبة التحضر والركب الإنساني، على الرغم من انتمائي إلى مدرسة تؤمن بمسلك معماري له هويته، خاصّ بي كمعماري عراقي أو لنقل ابن المنطقة. آمنت به وعملت على صياغة هذا المسلك الخاص والمنحى المعماري العام. أردتُ دائماً أن أواكب ما يحدث في المعمورة من حركات واكتشافات معمارية وثقافية، ووددت أن أكسب احترام زملائي أينما كانوا. أردتُ كما لغيري أن نكون أحراراً في المواكبة والتنافس. لكن الأبواب أوصدت وأُجبر المعماريون على اجترار ما تعلّموه واكتشفوه خلال الدراسة من خلال الفورة الثقافية الخمسينية والستينية فقط. لذا تخلفت العمارة وتراجعت الدراسة. بالنسبة إليّ، شعرت في منتصف السبعينات، أنّ هذه الحقبة بدأت تأخذ حصتها من التخلف عن الركب، حيث لا مجلات ولا منشورات ولا ثقافة عامة التي هي غذاء روحي للمعمار. تدريجاً تلاشى الزخم المعرفي، وتصحرت الثقافة والمسلك المتمدن. وبالطبع، فإنّ التصرف والنتاج المعماري هما المؤشران الواضحان على هذا التخلف.

من تحفة الآلوسي المعمارية في بغداد: شارع حيفا

تصوروا مدينة بمدارس معمارية تفتقد إلى مسرح وسينما؟ تلميذ معماري يتخرج وهو لا يعلم ولا يعي ما يحدث في مرابع المدن الثقافية من معارض وفعاليات؟ نفرح ونهلل لمعرض كتاب سنوي. لكن هل نحن نقرأ؟ ما سرّع وأخصب هذا التخلف، هي الحروب المتكررة والحصارات المتتالية، وما صاحبها من زيادة في الترييف. بفعلها فُقدت المؤسسات الحضارية كالعائلة والمدرسة والجيرة. أصبحت هذه المؤسسات بحد ذاتها بؤر التخلف. التثقف الذي يقتات عليه العمار، ضاع أو تلاشى كلياً. وما نحن عليه اليوم هو نتاج هذا التيه والضياع. معماريون يشوهون، وأساتذة غير منتمين ولا مهتمين. والعمارة أصبحت فاسدة حالها حال المجتمع.

قلة من معماريّي العراق ذهبوا إلى مدونات ثقافية شخصية توثق الإنجاز الهندسي والذائقة المتطلعة إلى نمط من العيش يتضمن جمالية لا تتعالى على القيم الاجتماعية السائدة. أنت من هذه القلة صاحبة الرسالة الفكرية. هل تسمعك أجيال جديدة من المعماريين؟
- على الرغم من أنّ في كتابي الأول «نوستوس» (حكاية شارع في بغداد) الكثير من الحنين لبغداد وكرخها، إلا أنّ التحدي الصرف كان من وراء القصد. هناك من ربط الحالة السياسية والسلطة الحاكمة، بواجب العمارة ورسالتها. لم يعرفوا أو يفقهوا جانب الفروسية في المهنة. لم يعوا أنّ المعمار، وهذا ديدني، يتعامل مع البشر قبل الحجر. الإنسان الكرخي و«صوب» أجدادي، وازعي الأول والنهائي. همي كان أن أحافظ على مدينتي من التشويه، بخاصة أنّ بلادي في حرب ضروس وأنا متنعّم في اليونان. انتُخبت للمشاركة في تطوير الكرخ، فلبيت النخوة. لم يفهمها بعضهم من ذوي المنظار الأسود. هكذا، هوجمت ونعتوني بالخيانة. قبل أشهر، نعتني أحدهم في جريدة «القبس» الكويتية بمعمار السلطة. إذن، لا بد من أن أصحّح وأدافع، وأسرد الخفايا في تنفيذ هذا المشروع الحيوي، أي تطوير منطقة الكرخ وشارع حيفا. على الرغم من أنني أصدرت كتاباً كاملاً من ٣٥٠ صفحة، إلا أنّني لم أتمكن من مخاطبة البعض وهناك مَن خطط بغداد ولم يراجع أو يعلم بهكذا كتاب ووثائق. كتاب ضم مشروعاً فيه ٢٤ مقاولة لتطوير منطقة الكرخ أسوة بالمقاولة الأولى الخاصة بالشارع. لا ضير، فالفائدة عمّت على من يحتاجها أو يطلبها. الشباب ويا لسعادتي كانوا قرائي ومتتبعيَّ ومقيّمين لعملي هذا، فيا لسعادتي. نعم فتحوا سمسم، باب الذاكرة على وسعها. إذن الشباب ومراجعاتهم شجعتني على الاستمرار، بل التقصي والاستزادة بما يليق بهم. وهم متقبلون ومتفضلون عليّ. لذا واصلتُ تدوين المسلك في «ذروموس» ثالث الثلاثية. إصرار في نهل المعرفة من قبل شباب فاتهم ويفوتهم الركب، وهم عالمون. واجبي أن أضع ما اكتسبته في ترحالي الواسع من أجل ممارسة مهنتي، فيه ما قد يفيد أو ما يمكن تجنبه إن كنت مقصراً أو مخطئاً. يا فرحتي بالمردود المعنوي الذي حصلت عليه، ثروة لا تثمن. أوسمة متعددة على شكل كلمات ورسائل.
إجازات بناء لتحويل مناطق سكنية مثالية إلى بؤر استيطانية بكثافة سكانية عالية جداً


هذا النهج وضعني في درب لغوي، أتواصل من خلاله بشكل يختلف كلياً عن مدونات المعماريين النخبوية. في كتبي الثلاثة، تركت التعجرف المعماري ونزلت من برجي العاجي. لكنني لم أُفرّط بالأصل، بالتراكم المعماري والمعيشي. سرت مع المجموع في مسلك العمارة. سلاسة في الخطاب، توجيه في الفهم، ولا أقول تبسيطاً في اللغة. أبداً، فالعمارة لا تقبل التبسيط لكنها تقبل التآلف والعشرة.
حوالى ستين سنة من الخبرة والأحداث تشدّ المتلقي. غرضي هو تقديم ـ عبر نزهة ومشوار قراءة ـــ عمارة إلى الشباب وغير المعماريين. لذا لا أضع تخطيطات معمارية، بل أقص تصاميم المشاريع والأبنية بأسلوب أحاول أن يكون عاطفياً أو شاعرياً. وصلت بالتالي إلى الطالب كما غير المعماري. كثيرون أخبروني أنّهم يقرأون كتاباتي دفعةً واحدة، ينشَدّون إليها ولا يرغبون بتركها.

على الرغم من أنّ لمساتك حاضرة عميقاً في شوارع بلادك ومكانك الأول الحميم بغداد، كمصمّم ومهندس للعديد من مبانيها، إلا أنّك تبدو في كتبك الثلاثة أقرب إلى طي صفحة باتت مكرسة بالكامل لشعور يورث الألم. هل نحن على أعتاب مرحلة بغداد وعراق لا يعرفهما الآلوسي؟
- يقول الكاتب خالد مطلك في تقديم كتابي «ذروموس» إنّه لم يصادف في حياته من يشبه مدينته بقدر شبهي لبغداد. حقاً وفخراً. لكن أي بغداد؟ يستغربون ولهي وشغفي ببغداد وأنا لم أزرها منذ منتصف ١٩٨٩. هجرتني هي بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية. لم تكن غلطة أو زلة لسان، عندما قلت هجرتني هي. نعم أشتاق وأتلوّع كقيس الملوح بحبّ بغداد العامرية، لكن ببغدادي التي أعرفها وهي تعرفني، بغداد اليوم حتى لو عرفتني، هي جديدة عليّ. لا أريد أن أراها مغضّنة، ولا مشوهة، ولا مصابة بتخلف سرطاني. أريد أن أحتفظ بصورتها المتألقة.
كيف تركتني بغداد؟ اليوم، الجميع لا يشبهونني شكلاً ولبساً وتصرفاً في البغادة (المنتمين إلى الإرث البغدادي) على الرغم من تبغددي. في أحد الأيام في حقبة السبعينات، استدعيت إلى الأمن العام، والسبب أنّ مسؤول «حيّ المنصور» الحزبي خالني أجنبياً أوروبياً بسبب شكلي. ومرة، مُنعت من دخول العبدلي على حدود الكويت بسبب طول لحيتي. تصور اليوم مع القبعات المدهونة بالشحم في الراس على هيئة شعر، ولا سيماء في وجهي تنم عن انتمائي الأول والأخير، كيف لي أن أعشعش فيها كما كنت، وبما أحمله من أفكار وأمنيات غريبة، وأنا مرفوض كإنسان، أريد أن لا يضطهده المجموع، ولا أريد أن أضطهد الجميع بتصرفاتي الممجوجة.
بعزوفي عن الزيارة (نعم أشعر بالعقوق) أحافظ على الذي كان ومضى، هي الذكرى والحياة الجميلة التي أتممتها معها. هي في بالي وخاطري. محفورة بعمق في وجداني، أخاف عليها من التشويه. انتمائي هذا، لتلك التي تشوهت، وما بقي منها هو مدينة فوضوية ذات حزن سادي. ولا أعرف ذاك الحزن الجميل ولا أريد حتى التعرف إليها، رغم التوجع والحنين الطاغي.

كيف وصلنا كعراقيين إلى مرحلة الفوضى التامة، وهل ثمة أمل لهندسة معمارية وبنى ثقافية تعيد للبلاد وإنسانها فرصة الانضمام إلى روح العصر؟
- العمارة دائماً في الريادة. تعكس حال البلد وما هو فيه، فكيف لهذا الوجه من الحضارة أن يغرّد منفرداً؟ تخلّفٌ يعمّ البلد، أول ما ينعكس على الحركة العمرانية. العمران هو التمدن. مسلك المدينة. فإذا كانت المدينة وساكنوها وأهلها أصابهم التخلف، انعكس ذلك مباشرةً على العمارة. نمط عيش ونموذج قيم جديدان أنتجا لنا عمارة سوقية رخيصة غير محترمة، هاجسها المردود المالي، ورخيصة برخص المال الفاسد الذي شيّدها.
الإصلاح جذري، يبدأ بالإنسان، والتزامه بالقيم الإنسانية الصالحة والحديثة المفيدة. الالتزام شرط من شروط التقدم والخلاص من هذه الردة المتخلفة. ليست تلك الرجعية التي تعيق تقدمه. في إحدى محاضراتي الأخيرة، أخبرني طلاب أن جامعة بغداد تغلق أبوابها واستوديوهات العمارة، والمكتبة، عند الساعة الثالثة عصراً، خوفاً من أن يختلي الطالب مع زميلته ويحضر الشيطان بينهما! معماريو البلد خونة يلعب بعبهم الشيطان، ويلهيهم عن الدراسة! حتى يعود البعبع إلى القمقم يحتاج إلى معجزة، لكن علينا أن نجاهد ونحاول عدم الانصياع له.