البنت التي هربت من بيتي في الواحدة ليلاً، حدثّت صديقاتها عني مفزوعة: «يا لغرابة هذا الرجل، بينما كنت أفتش في شفتيه عن نبيذ أو قرون غزال تعثّرت بمدينة!!».
■ ■ ■

ذهبت إلى البنك لغرض أخذ قرض صغير، سلّمني الموظف طلباً لتعبئته، حين هممت بكتابة اسمي فوجئت أني نسيته هناك، لم يصدقني موظف البنك حين قلت له إني نسيت اسمي بالقرب من موجة على شاطئ عكا أمس، ظنني مجنوناً.
- جلست على صخرة، وقررت فجأة أن أسبح بملابسي لأني أخجل من بدانتي، أخرجت بطاقة هويتي واسمي ووضعتهما على حجر صغير بالقرب من موجة صغيرة خفيفة، وحين خرجت من البحر، كانا قد اختفيا.
استغرب الموظف - لكنك تبدو سعيداً وتتكلم وأنت مبتسم. كأنك غير غاضب على البحر الذي ابتلع هويتك واسمك.
- بحر عكا لم يبتلع هويتي واسمي، هو استرجعهما فقط
■ ■ ■

ثملاً جداً في طريقي إلى جنازة صديق بلا مال أو حساب على الفيس بوك، بلا موهبة ومهنة وحبيبة.
هكذا أوصاني صديقي الذي لا يعرفه أحد سواي، صديقي الذي لم يصاحب في حياته سوى الكلاب ودستويفسكي والفودكا: إذا حدث أن متّ، تعال ثملاً جداً إلى جنازتي، لا تقف في صف المعزّين القليلين، اضحك قليلاً إن شئت، ولكن بعيداً عن عيون أمي، لا تفزع من وجود الكلاب في الجوار، كن جداً بعيداً عني حتى أراك، ودافع عن كلابي فيما لو تم زجرها، ولا تصافح إلّا أمّي.
■ ■ ■

اشتقت لستّي مريم، قبل سبعة وعشرين عاماً، ماتت أمامي متأثّرة بحريق شبّ في ذكرياتها ذات صيف، آخر كلماتها لي في لحظة صحو مهولة كانت: «دير بالك على النّعنعات يا ستّي»، ثمّ سقطت في الغياب. ولم أعرف حتّى اللّحظة هل كانت، تقصد نعنعات قريتها المسروقة «بيت نبالا»، أم نعنعات حوضها التّرابيّ الخفيف على سطح غرفتها في المخيّم.
بول غيراغوسيان ـــ «سوق» (زيت على قماش، 1993)

■ ■ ■

دون قصد وقعت على وجهي لقمة من خبز وجهها. فقفز من قلبي كل جوعى العالم.
■ ■ ■

حين ترى امرأة ترقص وحدها تحت الثلج ليلاً، ابدأ فوراً بالشك في جدوى الفنون.
■ ■ ■

حين تقول لك صديقتك السعيدة، المجنونة: - أين مرحاضك، أريد أن أقوم بشؤوني الجسدية الخاصة.
تذكر أن الدموع قد تكون من ضمن هذه الشؤون الخاصة.
■ ■ ■

وحيد مثل قشة. ولا يكفيني أن أضع رأسي على كتفك... أريدُ أن أصبح كتفكِ.
■ ■ ■

لأن غيمة قالت لي وهي تلعب الغميضة مع الشمس على سطح بيتي: - لا تذهب اليوم إلى المدرسة. كان هذا ردي على سؤال مديري على الهاتف: - لماذا لم تحضر اليوم يا زياد إلى المدرسة.
تعودت منذ طفولتي البعيدة أن أصدق كائنين اثنين فقط: أمي والغيمة. أمي لأن لها قلب نبي، والغيمة لأن لها قلب إله. أغلق المدير الهاتف في وجهي غاضباً، وفتحت الغيمة لي قلب العالم.
■ ■ ■

في مركز لتأهيل أطفال الاحتياجات الخاصة، بينما كنت أزور أختي غادة، لاحظت صبية في الخامسة عشر من عمرها، تروح وتجيء ضاحكةً بشكل هستيري في الممر وتطلق من فمها أصوات قبلات موجهة إلى الفراغ، حين حاذتني استوقفتها وسألتها: لمن تطلقين قبلاتك يا صغيرتي؟ فنظرت إليّ نظرات مخنوقة، مذهولة ومضت دون كلام، سألت المرشدة عنها فقالت لي إن لا أحد يزورها من العائلة، وأنها تمضي وقتها تقبّل الموظفات، وتطلب من الموظفات أن يقبلنها. مضيت إلى بيتي، مؤمناً بأن مرض العالم يتلخص في غياب القبلات، رحت في الطريق أطلق في الهواء قبلات كثيرات، رأيت الناس ينظرون إليّ ضاحكين، لكني لم أكترث وواصلت رمي قبلاتي في الفراغ، فثمة خد بارد وحزين يطلّ من شباك بعيد بانتظار حركة شفاه خفيفة.
■ ■ ■

عشرون رسالة قصيرة إلى أجمل النساء المنتحرات:
[إلى سليفيا بلاث الفلسطينية]

1. ماذا أفعل بجثتك أيتها المنتحرة العزيزة، الممددة على بلاط حمامي في هذا المساء الفلسطيني البارد؟ ثم ما هذه الجوارب الجديدة التي تلبسينها؟ ألم نتفق على التقشف؟
2. ماذا يعني يا عزيزتي أن تتركي بجانب جثتك دمية أطفال نائمة أو ميتة مثلك؟
3. لماذا انتحرت؟ قلت لي إنك ذاهبة لتفقد الأنفاس الأخيرة لأنثى النسر الجريحة التي دخلت بيتنا بالخطأ فارتطمت بالزجاج ووقعت شبه ميتة. حين جئت أبحث عنك في الغرفة السفلية، كنت أنت ميتة ولم تكن هناك أنثى النسر أبداً، الغريب أن الغرفة نفسها اختفت أيضاً.
4. ثم ما هي الخيانة يا عزيزتي المنتحرة؟ أنا لا أفهم غضبك، أنا لم أفعل سوى أني دعوت صديقتك إلى نصي لتقيم هناك. كانت صديقتك تشعر بالبرد، ففرشت عباءة نصي على جسمها. إياك أن تقولي لي إنك انتحرت بسبب ذلك. يا له من سبب سخيف ومطروق.
5. لم أعرف أن الشخص اللطيف الذي ربت على كتفي الحزين في الكنيسة المهجورة هو يهودي. كنت أقف يا عزيزتي المنتحرة تحت اسمينا المحفورين قبل عشرين عاماً، أعلى الجدار العتيق والسميك، أتذكرين؟ يوم حشرنا منديلاً أبيض في شق الجدار، وفجأة طارت أنثى النسر من الشق، وسقطت ميتة على كتفك، ابتسمت أنا، وخفت أنت. منذ تلك اللحظة أنت تغيرت. لم أكن ساحراً صدقيني.
6. جميل منظرك وأنت ميتة عزيزتي على الأقل بهذا الشكل الصامت والثابت، أستطيع أن أعد شعر رأسك كما أقسمت أن أفعل دون أن تضجري مني. وأن أقبلك في المناطق التي لا تحبين أن أقبلك فيها.
7. من سيقرأ قصصي بعد الآن بطريقتك الغريبة التي أحبها أيتها الجثة الأنيقة الممددة في حمامي. حين أسقط في الإنشاء تطردينني من البيت، فاضطر إلى النوم في غرفة مهيب المجنون. تحت خارطة العقارب القتيلة المتجمدة. وحين اصطاد فراشات المعنى في برية الكلمات الهاربة، تعانقيني بقوة وتبكين على قمر كتفي.
8. سأتصل بالشرطة، لا لا لن أتصل لأنهم سيزعجونني بالسؤال عن علاقتي بك وستعرف عائلتك بوجودك ليلاً في بيت رجل عازب، سيغضبون كثيراً وسيقتلونك مرة أخرى، لن اتصل. اطمئني أيتها الجثة الممددة في حمامي.
9. سأخبرك بما حدث منذ انتحارك: قبضت سلفة بألف شيكل، أصبت برصاصة فلسطينية طائشة بقدمي. محمود درويش أصدر كتاباً جديداً اسمه: «في حضرة الغياب». لم تبتسمين؟
10. الآن عرفت لمَ كنت تحلمين بفرجينيا وولف وهي تهديك حجراً كبيراً وسليفيا بلاث وهي تهديك فرناً فاخراً؟ وبحثك المحموم في الانترنت عن سيرة المنتحرات الجميلات، الآن عرفت. لم كانت لفظة النسر ترجف بدنك وتشوش يومك.
11. بالمناسبة، أنا لم أسألك بعد لم انتحرت؟ ألم نتفق على السفر إلى قصر الحمراء في الأندلس لنعرف من أُسود النوافير كم هي الساعة الآن؟ دائماً كانت مشكلتنا أننا لا نعرف في أي زمن نعيش.
12. الآن تذكرت. قلت لي مرة إن النسر كان قبل آلاف السنين دودة وإنه ثابر وناضل حتى صار نسراً. ولكن ما علاقة هذا بانتحارك أيتها الجثة الممددة بلا ملل في حمامي.
13. ماذا أفعل بجثتك الآن؟ فقد نعست، وأريد أن أنام.
14. ابتعدي قليلاً عن حمامي يا جثتي العنيدة أريد أن أبول.
15. مدي يدك يا صغيرتي الميتة أريد أن أسرق قرطك وأهديه لصديقتي التي لم تنتحر بعد.
16. واو. تذكرت كم هو جميل غيابك المفجع هذا، سيكون هناك متسع لنص جديد عن جثة ونسر. فأنت تعلمين جيداً كم هي شاحبة بلادنا ومكررة وفقيرة الأفكار والتجارب.
17. أتذكرين صديقنا الذي كان يكثر من الحديث عن فوكو؟ يُقال إنه انتحر أمس تاركاً سطراً واحداً: لم أستطع أن أعثر على قلب لذهني الشاسع؟
18. هل أحسب حسابك في كأس شاي أخضر يا أحلى الجثث؟
19. عزيزتي ثمة من يطرق الباب، لن أفتح، سأطل من النافذة. إلهي أسراب هائلة من النسور تنقر بابي. نسر واحد وهو أكبرهم يحمل فوق جناحيه جثة أنثى النسر التي ارتطمت ببيتنا.
20. سأنهض من نومي، لا لا لست أحلم، هناك جثة في مكان ما لامرأة عزيزة على قلبي. لكني لا أتذكر أين.
* فلسطين