بداية نود لفت الانتباه إلى أن عنوان كتاب «التعاطف مع الخائن» (بيت برس ـــ 2018) للمترجم الأميركي مارك بوليزوتي، لعب على الألفاظ باللغة الإيطالية حيث يقترب لفظ كلمة «مترجم» (Traduttore) من كلمة «خائن» (Traditore). ولا شك في أنّ بعض الناس يرون أن ترجمة بعض النصوص إلى لغات أخرى، لا بد من أن تُضَيِّع بعض المعاني. هنا أذكر أن الأديب السوري الراحل نزار قباني قال مرةً في ندوة أقيمت له في برلين «ترجمة الشعر خيانة»، ما أثار حنق منظمة الحفل سلمى الخضراء الجيوسي لأنها كانت حصلت على موافقته على ترجمة بعض نصوصه إلى الألمانية قبل دقائق قليلة من الحفل، مما دفعها إلى مغادرة المنصة!كما إني أنظر إلى هذا الموضوع من منظور كوني ناشر مؤلفات مترجمة إلى العربية، مع أن أغلبية ما نشر كان في مجال العلوم الإنسانية لا الأدبية. لكنني أشرفتُ أيضاً على نشر بعض المؤلفات الأدبية من مختلف اللغات ومنها الفرنسية والتركية والفنلندية، واكتسبت تجربة مهمة في هذا المجال، خصوصاً عند حدوث تعارض بيني، كوني مراجعاً، وبين المترجمين، مع احترامي الشديد للمبدعين والمبدعات منهم.
دعنا من ذلك، ولنلتفت إلى مادة المؤلف الدسمة الذي يستحق الاسترسال في عرضه، لأنه أثار ردوداً كثيرة في عالم النقد والترجمة، إيجابية وسلبية. مما يوضح مدى أهمية هذا الموضوع، علماً بأن بلاد الكاتب الأميركي لا تصدر سوى عدد محدود من المؤلفات المترجمة. أذكر في هذا المجال المقولة السخيفة «العرب لا يقرأون» التي كثيراً ما تتردد في مجال السعي لإحباط العرب وتحقير أنفسهم خدمة لأجندات معروفة. الكاتب نفسه يقرّ بأن بلاده، أي الولايات المتحدة الأميركية، نادراً ما تصدر مؤلفات أدبية مترجمة، فالأخيرة تشكّل فقط 3% من الإصدارات السنوية هناك مترجمة عن لغات أخرى؛ فيا أيها السادة المتخصصون في جلد الذات العربية: هل مقدار الترجمات حقاً مقياس من مقاييس التقدم؟!

كما إني قرأت في هذا المؤلف المثير شكاوى عديدة كنتُ أسمعها، كوني ناشراً، منها أن المترجم العربي يعاني ضيق الحال وأن مهنته لا تحظى بالاحترام، وأن ما يكسبه من دخل من الترجمة لا يكفيه للعيش، فيضطر للعمل في وظيفة أخرى كي يحصل على دخل كاف يؤمن له الحياة. هذا تماماً ما يقوله هذا المترجم الشهير عن عمل المترجمين في ديار الغرب... هو الذي نقل إلى الإنكليزية أكثر من خمسين عملاً أدبياً بالفرنسية تعدّ من أمهات ما نشر هناك، ومنها العائدة إلى كل من باتريك موديانو، وريمون روسيل، ومارغريت دوراس، وغوستاف فلوبير صاحب الرواية الشهيرة «مدام بوفاري». الكاتب/ المترجم يقول عن نفسه: «أنا مارك بوليزوتي. مهنتي مترجم، وكاتب وناشر بالتعاون مع أكبر متاحف مدينة نيويورك الشهير Metropolitan Museum of Art الذي يؤمه سنوياً أكثر من سبعة ملايين زائر. أعمل في مجال الترجمة منذ أربعين عاماً، وفي مجال النشر منذ نحو ثلاثين عاماً، وكاتباً للفترة نفسها». ويتحدث عن تجربته الأولى في الترجمة الأدبية تورطاً وكانت من الفرنسية إلى الإنكليزية لأديب فرنسي اسمه موريس كولينز. يومها، اكتشف أن «العمل غير قابل للترجمة إطلاقاً» لكنه أنجزه بالتعاون مع الكاتب، فأمضيا ساعات طوال سوية حيث كان الأخير يعطيه مؤشرات لمعانٍ مقصودة في العمل الذي نشر، مع أنه كان أول مؤلف له.
يشير الكاتب إلى بعض المصاعب التي تواجه المترجم منها أنّ الترجمة مستحيلة، وأنّ الترجمة الصحيحة هي من المستحيلات، والترجمة هي حرية.
وعن الترجمة الأدبية، يقول الكاتب إنها تخدم هدفاً مجاوراً إلى حد ما لأدوار إعادة التربية الثقافية، أو الوَحْدَة العالمية التي نكلفها بها. لكنه يرى في الوقت نفسه أن على الترجمة صيانة المسافات التي يُفترض أنها تُجَسِّرها، ليس عبر الحفاظ على المسافات بين الحضارات وإنما جعل الاحتكاك/ التلاصق ينتج شرارة وليس اختناقاً.
ويقول إن النص المترجم هو تعاون. إنه ليس مثل النص الأصلي، لكنه بالضرورة إعادة تأويل، إنه قراءة كاتب آخر وإعادة خَلْف جمل الكاتب الأول بكلمات أخرى، ضمن عملية ذاتية بالضرورة. ويضيف: «على الترجمة نقل المعنى، وأن تكون سهلة على القارئ لقراءتها. أريد أن تستدر الترجمة ثقافة الآخر وحياته، لكن من دون أن يلاحظ قارئ الترجمة الإنكليزية ذلك».
يضم المؤلف تسعة فصول تغطي النقاش النظري في مسألة ما إذا كانت الترجمة ممكنة، وإلى أي مدى، وهل هي عِلم أم فن؟ أما الفصول التسعة فهي الآتية:
- «هل الترجمة ممكنة (وما هي أصلاً)»؟
ينبغي للترجمة صيانة المسافات التي يُفترض أنها تُجَسِّرها


- «قديسون وشهداء وجواسيس»: هذا الفصل يتناول تاريخ الترجمات من السبعونية/ السبتواغنت (LXX).
- «لغة صافية»: يتناول هذا الفصل فكرة أن الترجمة هي اقتراب من اللغة الصافية.
- «خائنة على نحو جميل».
- «الصمت بينهم»: يتناول الفصل تحديات التفاهم العابرة للثقافات.
- «التعاطف مع الخائن»: خصص الكاتب هذا الفصل للحديث عن تجاربه في الترجمة، إضافة إلى تجارب بعض معاصريه، مجيباً على أسئلة من قبيل: هل لغة غارسيا الإسبانية جيدة؟ وماذا عن لغة كونديرا؟
- «الشِّعر المُرسَل والجدلية»: هذا الفصل يناقش إمكانية ترجمة الشعر.
- «في الحاشية»: مادة هذا الفصل تركز على ترجمة النصوص التجريبية.
- «خوخة آدم أو هل الترجمة مسألة ذات شأن؟».
لكننا نضيف هنا بعض المواضيع التي يناقشها الكاتب في مؤلفه هذا وهي: الدعاوة والترجمة، الأقلمة (التكيف، التهايؤ) في الترجمة، الكتاب المقدس والترجمة، الترافد (التضافر) في الترجمة، الإصلاح في الترجمة، الإبداع والترجمة، الثقافة والترجمة، تعريف الترجمة واشتقاقها، الترويض (التأنيس) في الترجمة، تأثير الترجمة في القارئ، الموازاة في الترجمة، التجسس والترجمة، آداب (أخلاقيات) الترجمة، الأمانة في الترجمة، عناوين الأفلام والترجمة، الأجنبية (الفَرْنَجَة) في الترجمة، الإمبريالية والترجمة، تحسين النص الأصلي في الترجمة، التأويل والترجمة، الترجمة الحرفية، معاداة الترجمة، التأدية (التطبيق) والترجمة، الشعر والترجمة، إمكانية الترجمة، ممارسة الترجمة، النشر وتدبير الترجمة، القراءة والترجمة، الأصوات والترجمة، الأسلوب والترجمة، نظرية الترجمة، الثقة والترجمة، منفعة الترجمة.
صاحب هذا المؤلف لا يعرف اللغة العربية ورأي الكتاب العرب القدماء في الترجمة. لذلك نسمح لأنفسنا وضع هذا الاقتباس من الجاحظ (ت عام 868 ت س): «لا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضاً قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما، لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات، وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتة مترجماً يفي بواحد من هؤلاء العلماء».

* Sympathy for the Traitor: A Translation Manifesto (The MIT Press- 182 pp. Mark (Polizzotti