يبدو عارف حمزة (1974 ـــ شاعر سوري مقيم في ألمانيا) متأنّياً في نصوصه الجديدة «لست وحيداً» الصادرة باللغتين العربية والألمانيَّة (ترجمة الألمانية ساندرا هيتزل ــــ دار سيسسيون ـــ سويسرا- 2018). النصوص مكتوبة بين عامي 2013 و 2017 بين سوريا وتركيا وألمانيا. اختلاف المكان (مكانُ تدوين النصوص) لا يبينُ على الكتابة، إذ لا إشارةَ إلى المكان ولا تواريخَ سوى ما دلَّ عليه الشاعر في مستهلّ الكتاب. النَّفَس القصير والعميق والمكثَّف للكتابة، يبدو جليَّاً من خلال الدنوّ من المرض والحرب والوِحدة. تلكَ العناصرُ التي تستوجبُ تذكّراً مؤلماً، مكوِّنةً المحتوى الكتابي للنصوص، فيما التأنّي يبدو واضحاً من خلال النحت اللغويّ العميق في جسم المفردة وإلباسها لبوس الحكمةِ عن طريق استخدام المتناقضات ضمن النصوص برمّتها، تناقضات بالمعنى الإيجابي وليس السلبي. فهناك ما يدفع القارئ كذلك الأمر إلى التأنّي في القراءة ومن ثمَّ التأويل. ثمّة ما هو خفيٌّ وواضح في آن، وضمن النصّ الواحد أكثرَ الأحيان، شيءٌ ما يحيلُ القارئ إلى الحكمة بتجلّياتها المتعددّة التي لا تكفّ عن إظهار رؤوسها المختلفة بين نصٍّ وآخر! الحكمةُ في إيجازِ المعنى وتكثيفه واختصاره إلى أعلى درجةٍ شعريَّة يمكنُ خلالها الاقتصاد في المفرداتِ واختيار الأنقى أو ربمّا الأنسب إن جاز التعبير. هذا دأبُ الشاعر منذ مجموعتهِ الشعريَّة الأولى.بدت موضوعة الحرب هي الأثيرة لدى الشعراء السوريين منذ العام 2011 وحتّى هذه اللحظة في ما يصدر من مجموعاتٍ شعريَّة أو أعمال روائيَّة. الحرب كمفردة تودي من ناحية المعنى إلى معانٍ أخرى تتوالدُ من قصيدةِ شاعرٍ إلى آخر، وبتداولٍ لغويّ فكريّ متباين. هذا ما يركّز عليه حمزة، لكن بأسلوبه اللغويّ الخاصّ، لا سيما أن عارف حمزة سبق أن كتب عن الحرب والموت في مجموعته الشعريَّة الأولى «حياة مكشوفة للقنص» (صدرت العام 2000)، وكذا في مجموعاتٍ تلتها: «قدم مبتورة» و«الكناري الميت منذ يومين». أسلوب يتشبّث به محاولاً أن ينجو بنفسه مثل بقية أقرانه السوريين المسافرين من دولةٍ إلى أخرى بعدما ضاقت بهم أرضهم التي تشهدُ حروباً طاحنة. لكن هل يمكنُ جمعُ كلمة الحرب؟! فالحربُ هي الحرب مهما اختلفت مسمّياتها أو دلالاتها، غير أنّ الحرب السوريَّة (بعيداً عن النظرة الشعريَّة) حقيقةً تحتملُ العديد من أوجهِ الجمعِ والتثنية لغوياً وفعليَّاً على الأرض. وهذا ما يمكن له أن يكون شعريَّاً، كذلك الأمر وعلى نفس الدرجةِ من الثقة العمياء بالخرابِ «شعريَّاً»، لا توجد مباشَرة في النصوص، لكن ثمة دلالات على الحرب عِبرَ الكثير من المفردات: «نصف قمر يؤلمني/ كانشطار وجهكِ إلى نصفين/ تحت هذا النصف من القمر الضعيف/ حملنا أولادنا إلى الأسرَّة/ بينما حملهم الآخرون إلى القبور». ثمّة دائماً دهشةٌ في نهايات نص عارف حمزة، تلك النهايات المُدهِشة توضّح كلّ ما مرّ في أحشاء النص بعد قليلٍ من القراءة، تلكَ الدهشة التي تسري داخلَ القارئ عقب الوصولِ إلى المُراد بالمعنى.
موضوعة الحرب هي الأثيرة لدى الشعراء السوريين منذ 2011


يقدّم حمزة في هذا الكتاب مجموعة تأمّلات للألم، الحرب، الخسارة، الموت، الغرق، الجثث، وحتّى الحب في ظلّ الشرّ المشتعل حولَ العالم الذي كشّر عن أنيابهِ في سوريا بالتحديد: البحر الذي خان السوريين ولفظَهم، الأمكنةُ التي ترفضُ السوريَّ بقسوةٍ غير منطقيَّة: «تموتُ دواخلُ الناجين من الغرق/ ولا تعيشُ/ سوى المنطقة التي للموت». أو مثلما ورد في نصّه المعنوَن بـ «سنةُ غرق المهاجرين السورييَّن». النصّ الذي يشرحُ بتؤدةٍ الموقف النفسانيّ للسوريّ المهاجر بحراً، هو المرادفُ الأوحد لمفردةِ الغرق السوري: «يبدأ الغرق في اللحظة التي يُخبر فيها «المهرِّبُ» الغارقينَ بموعد الرحلة الأخيرة للقارب المهترئ/ بمجرّد أن يقولَ الموعد يغرقون/ والقاربُ ينقلب ويطفو قليلاً كبقرة جرفها السيل/ ثم ينزل نحو القاع الذي استقبلَ عشرات الأبقار النافقة». أحياناً لا محيدَ عن القسوةِ في الكتابة، هذا ما يراهنُ عليه الشاعر في سردهِ القاسي لآلام الهجرة. أيضاً القساوةُ في تذكّر النزوح السوري كما في نصّ: «رأيتُ عشر عيون جميلة وقد انكسرت». القساوة التي دفعت بالشاعر إلى إدراج الحوار باللهجة العاميَّة السوريَّة لتتضّح القساوةُ وتفصِح عن نفسها وتصل إلى أوجها الباذخ، كأنّ الإفراط في القساوةِ ها هنا ضربٌ من ضروبِ النجاة بالروح وتوجيهها نحو سكينةٍ ما خفيَة.
إضافةً إلى المعالجات المختلفة لعدّة مواضيع متعلّقة بالحرب في النصوص، ثمّة اللغةُ الأنيقة والمشذّبة التي تحاولُ أن تصلَ من دون معوقات، اللغة التي تتأنّى في اختيار ذاتها ببساطةٍ تضفي طابعَ الانسيابيَّة في التدوين، دونما التفاتةٍ إلى الغموضِ أو حتّى الدنوَّ منه. القصيدةُ حينما تدنو فقط من البشر فعليّّاً من دون أن تفكر في أن تترفّع وتسكن في مكانٍ عالٍ، تحاولُ أن تربت على كتف الفقراء والمهجّرين من بيوتهم، أن تسهِبَ في شرحِ الألم وتفسير أحوالِ الدم علّه يكون الشفاءَ من القسوةِ ذاتها، مواجهةُ القسوةِ بالقسوة: «السترةُ الواقية من الرصاص/ تقي من الحبِّ أيضاً/ بينما الذين أنقذوا الأطفالَ من تحت الأنقاض/ أنقذوا/ الأنقاضَ أيضاً».