ضمن مجموعتها القصصيَّة «الطلبيَّة c345» (منشورات المتوسط – إيطاليا/ ميلانو ضمن سلسلة «براءات»)، تمضي القاصَّة والشاعرة الفلسطينيَّة شيخة حليوى بسردها نحو مكانٍ يختلطُ فيه الشعرُ مع السَّرد. ثنائيَّة تبعدُ الكتابَ برمّته عن التصنيف أساساً. منطقة وعرة في الكتابة تقف القاصَّة على حافّتها بالحذر ذاته الذي يقف فيه الإنسانُ على قمة شاهقٍ، خلفه حقلُ ألغام وفي الأسفل حقولٌ من الموت. ثمّة نزفٌ داخليّ عبر البوح الدائم يشعرُ بهِ القارئ لبساطة المكتوب وانفلاته من قوائم الأُطر الكلاسيكيَّة لمفهوم كتابة القصَّة القصيرة في العالم العربي. اللغة المرنة والسلسة تطغى على المجموعة بأكملها، حيث تمتزج المواضيع داخل النصوص، أغلبها (أي المواضيع) ذاتيَّة الطرح، على الأقلّ من ناحية دلالات البوح الدائمة. ومن ثم تتَّسع فجأة (على الرغم من قِصر النصوص) بعيداً عن الحوارات (كما جرت العادة داخل القصص) لتشمل المجتمع بأكمله. لكن نظرة النصوص/ القصص داخل الكتاب مختلفة من حيث زاوية النظر إلى المفاهيم. فالقصص ها هنا لا تلعب دور الواعظ أو من يكون في مشهد وضع اليد على جرحٍ ما يخصّ المجتمع بغية المعالجة أو إيجادٍ حلّ ما، إنّما وضع اليد على جرح الإنسان الوحيد في هذا العالم، الإنسان بالتحديد الذي يشكّل لبنة المجتمع في ما بعد، ولكن دائماً ما يكون وحيداً أمام صورته. ثمّة ابتعاد عن المخاطبة الغيريَّة، المخاطَب هو الذات الكاتبة فقط، كما الحال في النصّ الأول من الكتاب «زيارة ليليَّة». ففي البداية، ثمّة قبر ووالدَان ميتان على الأغلب. فجأة تتحوّل فكرة الموت، لتتجاوزَ الموت الشخصيّ منطلقةً إلى الموت ككلّ: «كل ليلةٍ يقطع أبي الطريقَ من المقبرةِ إلى بيتنا. أسمعُ خطواته في الحديقة وأتظاهرُ بالنوم، بينما هو يبحثُ عن عصاه التي يخبّئها في خزانتي. أتركُ البابَ مفتوحاً وألعبُ معهُ لعبةً مسليَّة، هو ينسى عينيهِ في القبر وأنا أخبِّئُ العصا كلّ مرة في مكانٍ آخر». ثمّة نهاياتٌ في كلّ جملةٍ ضمن النصوص، توحي أنّ النصّ انتهى عند هذه النقطة أو تلك. لكن مع التقدّم في القراءة، يغدو المشهد أوسع. سردٌ ذاتيّ سلس، من دون تعقيدات ولا أفكار تحمل معاني فضفاضة، لنقف أمام طابع النصّ المفتوح من ناحية التأويلات المتعدّدة، إضافةً إلى المشاهد الكثيرة التي تضجّ بها النصوصُ كتابةً سينمائيَّة تصفُ مشاهدَ لا يمكنها أن تتحقّق إلّا في أفلامَ اتجّهت نحو السورياليَّة.
كل ليلةٍ يقطع أبي الطريقَ من المقبرةِ إلى بيتنا. أسمعُ خطواته في الحديقة وأتظاهرُ بالنوم

اللافت في المجموعة ليست اللغة الهادئة فقط، إنّما التسلسل الذي يشعر معه القارئ بأنَّ النصوص كتبت في يومٍ واحد أو على الأرجح خلال فتراتٍ زمنيَّة متقاربة جدَّاً. الجوّ العام للنصوص يحمل سمة الوِحدة في الأسلوب والمعالجة، والبوح بهدوءٍ كذلك الأمر.
ثمّة في أغلب النصوص، صوت داخلي محسوس، أو ربمّا الأصحّ هو بوحٌ وإصغاءٌ ما للذات وهي تمارس فعل «الهلوسة»، أو لعلّها فعلاً تقول الواقع عبر ذلك التداعي الحرّ! وهذه هي الحقيقة أغلب الظنّ. ثمّة إشاراتٌ تدلّ على أنّ النصّ هو من يكتب نفسه من دون أيَّ عوامل خارجية تدفع الكاتبة إلى الاستحضار، استحضار الحالة. ففي النصوص بأكملها، تتوافر تلك الصبغة السورياليَّة التي تدفع بالقارئ إلى بذل جهدٍ فكريٍّ معيّن، إلى الإصغاء لتلك الذات التي تروي من دون توقّف ولاستقبال المطروح كتابةً: «أرتعدُ من حائطٍ لا ثقبَ فيه، من عالم بجدران ملساء متساوية». جملة واحدة تفتح أبواب التأويل لدى القارئ، والجمل كثيرة، لا حواملَ ضمن النصوص من الممكن الاستدلال خلالها على المعنى. الأفكار الواردة لا يمكن للقارئ أن يحيلها إلى الواقع، وإن حدث وأحالها، فقدَ النصّ متعته الأساسيَّة فجأةً: «تزوجت مقابل خزانة. الكلّ يعرف ذلك. أمّها لم تخفِ ذلك يوماً، يقولون إنّها في يوم زفاف ابنتها قالت بين زغرودةٍ وأُخرى «ابنتي العروس عندها ما لا تملكه واحدة منكنّ! خزانة خشب من الأرض إلى السقف، عشرة رجال لا يحرّكونها من مكانها».
كائنات غريبة تضجّ بها نصوص المجموعة بأكملها، عوالمُ واضحة بسيطة وأخرى معقَّدة غير ملموسة، أحدهم يبحث عن عينه، والآخر في بحثه عن المحطّة الأخيرة لكلّ شيء يسألُ الناسَ عن مغزى المحطات الأخيرة، ودائماً ما من أجوبةٍ شافية ومريحة. الألغاز وهي تحرقُ الأعصاب والنفس بقسوة: «سنواتٌ كثيرة غبتها عن الحيّ، وعندما عدتُ كانت أشياء كثيرة قد تغيَّرت فيه، لم أستطع ربطها بصورتها قبل ذلك. الشوارع، الوجوه، رائحة أكوام القمامة، تيار الهواء. كانت قصّة الشاب وزوجته الدمية قد غابت بكل تفاصيلها عن ذاكرتي، لكنّها عادت لتكون أكثر من قصَّةٍ غرائبيّة مُحمَّلة بأسئلة كثيرة حينما وقعت عيني على لافتة كبيرة في واجهة أحد المحلّات كتب عليها بخطّ يدويّ جميل: «دُمى محليَّة ومُستوردة»».