بجرعة كبيرة من البساطة والنباهة، يفتتح الشاعر الفلسطيني طارق حمدان مجموعته الصادرة حديثاً «ضحك ونشيج» (المزدوجة اللغة، العربية والفرنسية/ ترجمة أنطوان جوكي ـ منشورات Plaine Page ) ودونما أيّ توريةٍ تُعمي المعنى أو تخرجه من سياقه. يمضي في الكتابةِ المتحررة من أثقال الكلام المنمّق إن جاز التعبير. النهاياتُ غير المتوقَّعة بالنسبة إلى القارئ، تنهالُ بثقلها من ناحية المعنى على قلب المتلقّي، وفي الوقت عينه يعفي ذاته، أو لنقُل ينأى بذاته عن كل ارتكابةٍ شعريَّة معلناً البراءة/ براءة شخصه: «أنا مجرد مُشاهد/ أُدخِل عنوةً إلى/ مسرحية مملة/ وعندما حاول الخروج منها/ سَحبَه الممثلون إلى الخشبة».

يبدو ألق المجموعة واضحاً في «نشيج وضحك»، أول النصوص المُدرجة في المجموعة. نص يفصح دون مجالِ للشكّ أننا أمام مجموعة شعريَّة حديثة من ناحية الطرح: «أبحث عن مرادفٍ لكلمة بشريّ/ فأجدُ إنسانْ/ أبحثُ عن الإنسانِ/ فلا أجدُهُ/ أعرف أنّ كل هذا الخراب الشاسع/ ما هو إلّا حصيلة غابة من نشيجٍ وضحكٍ».
يغلب على «ضحك ونشيج» الشعور بالوِحدة الذي يفضي بطبيعة الحال إلى التماهي مع البساطة، وبالتالي اختلاف زاوية النظر، على اعتبار أنّ النصوص تعتبر حديثةً جداً من ناحية الطرح على النقيض تماماً من الدارج الشعريّ. ثمَّ إنّ البساطة في فكّ وتركيب الجسم البشريّ وغيره (على سبيل المثال لا الحصر) وإضفاء طابع الخيال ضمن النصوص... جميعها يهب انطباعاً على النقيض تماماً من مفردة «البساطة». لكن ما يحقّق البساطة فعلاً أنّ ما يتكلّم عنه حمدان من الممكن جدَّاً تحقَّقه، على الأقلّ تدوينيَّاً!: «ضحكت ضحكت/ وتلويت تلويت/ حتّى انفصل رأسي/ كانت كتفاي مكانهما/ والرأس يضحك على الأرض».
تضجّ مجموعة صاحب «حين كنتُ حيواناً منويَّاً» (دار أزمنة ـ 2011) بالبساطة التي تدفع الشاعر إلى البحث عن أجزاء من جسمه في الفضاء والشوارع والأحياء. تتحوّل الأجزاء الضائعة أو التي «ركلها» إلى ابتساماتٍ ودموع. شيءٌ ما سحريّ فيه الكثير من التحدّي للحياة. تحت الجسور، أو في الأحياء التي تكتظّ بمحتسي البيرة، وبكادرٍ واسع، يفتح طارق عينيه على اتساعهما ليتسنّى له الرؤية الأوسع للبساطةِ من حوله، ولليوميّ الذي لا بدّ من أن يدوَّنه كي لا يذهب أدراج الهباء! ينتبه في الوقت عينه إلى أنّ القاموسُ اليومي للحياة، مليء بالمفردات التي يمكن الاتّكاء عليها. وهذا ما فعله حمدان من دون أن يتكلّف لغويَّاً، بل اعتمد على المفردةِ كما هي في الحياة الحقيقيَّة، وبعيداً عن التلغيز. يدنو أكثرَ إلى جوهرِ اللغةِ الذي لا بدّ من أن يكون على مسافةٍ قريبةٍ جداً من العقل البشريّ اليوميّ، دونما شدٍّ أو جراحةٍ تجميليَّة للمفردة.
شعور بالوِحدة يفضي إلى التماهي مع البساطة

لذا نرى مفردات (اللابتوب، البقشيش، الديناميت «كدالٍ على الموت والقتل») متوافّرة كجزءٍ لا يمكن اقتصاصهُ أو الاستغناء عنه: «عشرُ دقائق لتقليب الدماء على التلفزيون/ عشر دقائق تكفي لاحتساء نصف فنجان قهوة، سأنتهي من نصفه الآخر قبالة شاشة اللابتوب» يقولُ الشاعر.
اللافت في عناوين النصوص بمجملها، أنّ العنوان بحدّ ذاته قد يؤخَذ كنصّ أو كجزءٍ من نصٍّ فريد (جيش من النمل، مملكة الأرق، الكابوس الآن). عناوين تُوصِلُ مفاتيحَ إلى يد القارئ كي يستطيع الولوج إلى حديقة المعنى من دون كسر الباب وتشويهه، باب المعنى. يحاول حمدان أن يبتعد عن الخيبات في العناوين، يحمّل كل تلك الخيبات التي استغنى عنها في العناوين، ويضمنَّها جسم النصّ كي يبتلعها: «هي» الإنسانيَّة تلك الكلمة التي/ وجدتها اليوم تتحلّل/ داخل ثلّاجة لنقل لحوم الدواجن». أو كما في هذا المقتطف: «ولأنني حاولت النهوض ثانية/ عرفت أنّ الحل هو قذف كل ما ابتلعته/ هكذا، خيبت أمل صديقتي بالحب/ وأمي بشراء منزل وتكوين عائلة/ والمحرر باستقبال مقالاتي آخر الأسبوع/ ونادل المقهى بترك بقشيش له بعد كل كاسة بيرة/ حتّى كلب جاري اللطيف الذي كنت أداعبه كلما مررت بجانبه/ اليوم نظرَ إليّ كعشيقة صفعها الخذلان».
تتجّهُ بعض النصوص إلى أن تكون حكايةً قصيرة يودُّ الشاعر أن يسردها بالتفصيل، لكنّ شعوراً حقيقياً بدنوِّ كارثةٍ ما أو لضيقِ في الوقت ربمَّا يجبره على أن ينجو بنفسه بعد أن يكون قد سردَ الحكاية باقتضابٍ وتكثيف ومن ثمّ الفرار والاختباء: «الشرطةُ وصلت وأخذت ترفع البصماتِ/ عمّال البلدية جاءوا/ تجمّعوا بهوفراتٍ كبيرة ومقشَّات عملاقة/ ينتظرون إشارةَ من رئيس البلديةِ الذي حضر أيضاً مع موظّفيه».