عبد الفتاح كيليطو... حمّال الحكايا | يَرتبطُ الفعلُ الكتابيّ لدى كيليطو، تصوّراً وإنجازاً، بالفعل القرائيّ، على نحو يَجعلُ تَحَقُّقَ أحَدهما رَهيناً بالآخَر. الفعلان مَعاً لا يَنفصلان أيْضاً عن الشكل الكتابيِّ القائم على الالتباس، الذي إليه انحازَ هذا الأديب. فقد سعَى كيليطو في هذا الانحياز، الذي انطلقَ مُنذ ثمانينيّات القرن الماضي، إلى تأمين تفاعُل خَصيب بين القراءة والكتابة، على نحو جعلَ الأولى، أي القراءة، مُنتجَةً لشَكْل كتابيٍّ ناجم عن قوانينها وآلياتها، وجَعلَ الثانية، أي الكتابة، فعلاً قرائيّاً حاسماً في تحقّقها واستوائها.يُعَدُّ الشكلُ الكتابيّ، القائم على التفاعُل بين القراءة والكتابة وعلى آليات هذا التفاعُل وقواعده ومُتطلّبات تَحَقُّقه، أحدَ العناصر الرّئيسَة التي مَكّنَت كيليطو من إرْساء نَبرَته الخاصّة. نبرَةٌ تَحملُ مَلامحَ تشكّلت منَ الطريقة التي بها يُحوِّلُ كيليطو مَقروءَهُ الشاسع، أي نُصوصَ الآخَرين، إلى آلياتٍ تأويليّةٍ مُتداخلةٍ مع لُعبةٍ كتابيّةٍ شديدَةِ التعقيد. لربّما، لهذا الأساس تحديداً، تظلّ مُقارَبَة أعمال كيليطو انطلاقاً من نظريّة الأجناس الأدبيّة، في بَعض الدراسات المُنجَزَة عنه، قاصرةً عن كشفِ رهانات هذه الأعمال وعن استجلاء لُعبةِ الشكل فيها. لعلّ ما يَسمَحُ، في المُقابل، بالاقتراب أكثر من هذه الرّهانات هو الإنصات للعناصر التي بها تتحقّقُ نَبرةُ كيليطو الخاصّة به، انطلاقاً من التشابُك بين القراءة والكتابة في صَوغ الشكل الكتابيّ، ومن التلاحُم بين التأويل والحَكي في تَحَقُّق هذا الشكل.
يتحقّق التشابكُ والتلاحم المشار إليهما انطلاقاً من قواعد دقيقة، وهي تحديداً ما يرسم النبرة الخاصة. فالكاتب لا يستحقّ اسمه، وهذا أمرٌ يعيه كيليطو، إلّا بامتلاك هذه النبرة التي تَحملُ ملامح وجه الكتابة. مثلما أنّ للغة وَجهاً، فإنّ للكتابة أيضاً وجهاً. وجه يُخفي وجوه الآخرين التي منها يَصوغ ملامحه، بل لا يَستحقّ هذا الوجه ملامحَهُ إلّا اعتماداً على هذا الإخفاء الشاقّ والمُتطلِّب مَعرفيّاً، الذي به تتحدَّدُ كلُّ قراءةٍ وكلُّ كتابة.
لم يَكُن شَكلُ الكتابة، في أعمال كيليطو، مُنفصلاً حتى عن تجديدها للنّظر إلى نُصُوصٍ من قديم الثقافة العربيّة. استندَ هذا التجديدُ، في مَسار كيليطو القرائيّ، إلى رُؤيةٍ تغتذي مِن مُنجَزات العلوم الإنسانيّة وتعتمدُها في إعادة القراءة عبْرَ شَكل لا يُفرِّطُ في التباسه. فالشَّكل الكتابيّ عند كيليطو كان، بالصورة التي عليها انبَنَى، آليّةً تأويليّة في ذاته، مثلما كان مُضمِراً، في عناصر بنائه، لتصَوّرٍ عن الكتابة وعن المَعنى في آن. لقد كانت الصُّورَة، التي عليها انبنَى الشّكلُ في تحقُّقه، قائمةً على الالتباس، بأسُسه المَعرفيّة وقوانينه الدّقيقة ورهاناته البَعيدَة. ليس الالتباسُ في الشّكل الكتابيّ مُجرَّدَ أمْر شكليّ. إنّهُ شَكلُ كتابة وشَكلُ مَعْنى، وهو، في الآن ذاته، تصورٌ عن الكتابة وعن المَعنى. الشكلُ ذاتُه مَعنى.
مُقارَبة أعماله انطلاقاً من نظريّة الأجناس الأدبيّة، قاصرة عن كشف رهانات هذه الأعمال


يَستندُ الشكلُ المُلتبس في كتابة كيليطو إلى الارتياب، ويُنتجُ أيضاً الارتياب، مُنتصِراً لتصوّر يُقرُّ، انسجاماً مع رُوح الارتياب، بانفلات المعاني وتمَلُّصها، وبلانهائيّة التأويل. الشكلُ المُلتبسُ يُشطِّبُ اليَقينَ والبَدَهي ويَجعلُ المَعنى دَوماً مُؤجَّلاً. إنّهُ شَكلٌ يُرَسِّخُ الانتباهَ لوَهْم الوُضوح ووَهْم الألفة ووَهْم العادة، لأنّ كلَّ ما يَبدُو واضحاً أليفاً مُعتاداً يَحرصُ الشكلُ الكتابيّ، بما هو شَكلُ معنى، على كشْف غمُوضِه وغرابَته وفُجاءَته، أي كشْفِ ما لا تستقيمُ رُؤيتُهُ بعَين ثابتة وجامدة.
الارتيابُ في المعنى مُوَجِّهٌ رئيس في انحياز كيليطو إلى شكل كتابيّ يقومُ على الالتباس. فالإقرارُ بأنّ المعنى، في هُويّته وتحقّقه، مُلتبسٌ وغيرُ ثابت أمرٌ مَشدودٌ بخُيوط دقيقة إلى هذا الانحياز. مَصيرُ المعنى، وَفق ما يتكشّفُ من كلِّ ما كتبَهُ كيليطو، أنْ يَبقى مُلتبساً. لذلك كان الشكلُ المُلتبس هو الأقدر على التجاوُب مع هُويّة المَعنى القائم على الارتياب والمُنتج لهُ في آن. إنّ الأمر شبيهٌ هُنا، على الرغم من الاختلاف الكبير بين الشكل المُلتبس والكتابة الشذريّة، بانحياز بَعض الفلاسفة إلى الكتابة الشذريّة، التي عَدّوها الأقربَ إلى التخلّص من وَهْم تماسُك الحقائق ووَهْم تسلسُلها وتتابعها. ما يَحْكمُ علاقةَ التقطّع في الشذرة ببناء المَعنى شبيهٌ بالعلاقة التي تَصِلُ الشكلَ المُلتبسَ ببناء المعنى.
يُعَدُّ الشكلُ، وَفق هذا التصوّر، أسَّ ما قام به كيليطو الذي ظلّت نبرَتُه لصيقةً بطريقته في القراءة، وبطريقته في صَوغ هذه القراءة اعتماداً على شَكل كتابيٍّ قابل للالتفات جهَة الحَكي وجهَة التأويل في آن. إنّها القابليّة التي تتطلّبُ، أثناء بناء الشكل، التزامَ صَرامةٍ دقيقة، خلافاً لِمَا قد يُفهَمُ مِنَ التعميم المُترَتِّب على اختزال الأمْر في تداخُل الأجناس. إنّها صَرامة ذاتُ قوانينَ دقيقة، هي ما يُمَكّنُ الشكلَ من أن يَظلّ مُلتفتاً إلى جهَتيْن، وأن يَحْظى بوَجْهيْن، لكنّهُما غيرُ مُنفصليْن، بل مُتداخليْن حدَّ التماهي. إنّهُ التداخُلُ الذي يَخلقُ منَ الوَجْهَيْن وَجْهاً ثالثاً، أي وَجْهَ الالتباس. لذلك تنتظرُ أعمالُ كيليطو دراسات تكشِفُ عن قوانين بناء الشكل المُلتبس، وتَستجْلي حَيَويّةَ الوشائج التي رَسّخَتْها هذه الأعمال، اعتماداً على شكلها، بين التأويل والخيال الأدبيّ.
تعودُ البذرةُ الأولى لاستنبات كيليطو لهذا الشكل المُلتبس إلى كتابه «المقامات: السرد والأنساق الثقافيّة»، الصادر في نُسخَتِه الفرنسيّة عام 1983 وفي ترجمته إلى العربيّة عام 1993. في هذا الكتاب، نثرَ كيليطو، على نحو صامت، الأجنّة التي كانت مُضمِرَةً لِمَا يُهيِّئُ الحَكيَ عنده كي يَضطلعَ بفِعْل التأويل، ولِمَا يُهيِّئُ التأويلَ كي يأخُذ صُورةَ حكاية، قبْل أن يَتكفَّلَ مؤلَّفُ «الكتابة والتناسخ»، الصادر في طبعتيْه الفرنسيّة والعربيّة عام 1985، بالإرسَاء الفعليِّ للشكل المُلتبس.
لعلّ المُفارَقة اللافتة في لُعبة الشكل، والبانية لهذه اللعبة بقصديّة مُتشَعِّبَةِ الأبعاد، هي تخلُّقُ أجنّة هذا الشكل من رَحمِ كتاب هو في الأصل أطرُوحة جامعيّة. فكتاب «المقامات: السرد والأنساق الثقافيّة»، أطروحة تقدّمَ بها كيليطو في جامعة باريس الثالثة. لمْ يُكسِّر كيليطو، في هذا الكتاب - الأطروحة، تقاليدَ بناء الأطاريح وحسب، البناء الذي استكانَ إلى تقسيم ثنائيٍّ جامد يَفصلُ النظريّة عن المُمارَسة، بل حرصَ، أبعد من ذلك، على استنبات البُذور الأولى للتشابُك بين التأويل والحكي. إنّهُ التشابُك الذي يُمَكّنُ التأويل، من جهة، من أنْ يتخفّفَ من جَفاف المفهومات دون أن يتخلّى عن صرامته المعرفيّة، بما يُتيحُ له أنْ يُدمجَ الحكيَ في صَوغ المُقاربة، ويُمكّنُ الحَكيَ، من جهة أخرى، من طاقته على إنتاج التأويل. لربّما يَنتظرُ كتاب «المقامات: السرد والأنساق الثقافيّة» دراسةً تُضيءُ رهانَ هذا التشابُك، وتخلّقَهُ الصامتَ في ثنايا التأويل، وأبعادَهُ المُتشعِّبَة.
في مؤلَّف «الكتابة والتناسخ»، تبدّى بجَلاء الرّهانُ على الشكل المُلتبس الذي كان أكثر خفاءً في الأطروحة. في هذا المؤلَّف أيضاً، كشفَ كيليطو عن طاقةٍ كبيرة في بناء الشكل المُلتبس، الذي يَسمحُ بالحديث عن «النصّ المُتحوّل». إنّه النصّ الذي يَستندُ في تخلُّقه إلى معرفة بآليات التأويل وإلى طاقةٍ إبداعيّة قادرة على تحويل هذه الآليات إلى حكاية. لعلّ ما اضطلعَ، في مؤلَّف «الكتابة والتناسخ»، بإرساء «النصّ المُتحوِّل» هو خاتمَة الكتاب، التي كانت في الأصْل مقالاً عن الازدواجيّة اللغويّة قبل أن تتحوّلَ إلى حكاية عن تائهٍ في ليل الصحراء. تحوُّلٌ جَعلَ قضايا الازدواجيّة اللغويّة تنقلبُ إلى مُتواليات سرديّة، فيها يَتحقّقُ التأويل عبر لذة الأدَب وخياله ولُعبته. أبعد من ذلك، فإنّ خاتمة مؤلَّف «الكتابة والتناسخ» لم تكُن نصّاً مُتحوِّلاً قائماً على خصائص الشكل المُلتبس وحسب، بل انبنى موضوعُها أيضاً على شخصيّة كانت مسكونة، من بداية الخاتمة إلى نهايتها، بتوَجُّس التحوّل إلى كلب. وهو ما جعلَ هذه الخاتمة التجسيد الأعلى للُعبة الشكل المُلتبس عند كيليطو.
إنّ اللعبة الكتابيّة عند كيليطو، التي لا تنفصلُ عن اللعبة القرائيّة، تسمحُ للمَوضوعة الواحدة، في أحيان كثيرة، بأنْ تَحْضُر عبر نصّيْن أو عبر كتابيْن، يُشكّلُ كلٌّ واحدٍ منهما مرآةً للآخَر. في هذا الحُضور المرآويّ، قد تسمحُ اللعبةُ الكتابيّة بتغليب شَكل المقال في نصٍّ، وبتغليب شكل الحكاية في النصِّ الآخَر. لكنّ اللعبة تبقى مَفتوحة، لأنّ كِلا النصّيْن يَظلُّ قابلاً للتناسُخ، الذي يُتيح لهُما معاً تبادُل الأدوار. ومن ثمّة، فإنّ النصّ القائم على الالتباس لا يكونُ قابلاً للتناسُخ وحسب، بل قابلاً لأن يَرَى وَجْهَهُ الآخَر في نصِّه القرين، الذي يكون بالنسبة إليه مثل المرآة.
إنّ هذه اللعبة المرآويّة تجعلُ، النصَّ مُهيَّأً للتحوّل، وتجعلهُ، في الآن ذاته، يَرى وَجْههُ في نصِّه القرين. لعلّ ما يَكشفُ، تمثيلاً لا حصراً، عن هذه اللعبة المرآويّة هو العلاقة القائمة بين نصّ «الترجمان» المنشور في كتاب «لن تتكلّم لغتي»، الصادر عام 2002، ونصّ «من شرفة ابن رشد» المنشور في كتاب يَحمل العنوانَ ذاته، الصادر عام 2009. فالنصّان معاً قابلان للتناسُخ، أي لأن يتحَوّل كلٌّ منهما انطلاقاً من عناصره الداخليّة، بمَعزل عن الآخَر، وقابلان في الآن ذاته لأنْ يُشكّل كلُّ واحد منهما مِرآةً للآخَر. اللافت أنّ كيليطو لم يُحقّق هذه اللعبة المرآويّة بين النصوص وحسب، بل أنجزَها حتى من داخل العلاقة بين الكُتب. لعلّ التجسيد الجَليّ للّعبة المرآويّة بين الكُتب هو ما تكشِفُ عنهُ العلاقة التي تجمَعُ، مثلاً، كتابَ «العين والإبرة»، الصادر في أصله الفرنسيّ عام 1992 وفي ترجمته العربيّة عام 1996، برواية «أنبئوني بالرؤيا» الصادرة في نُسختها الفرنسيّة عام 2010 وفي ترجمتها العربيّة عام 2011.
وبالجملة، فإنّ الشكل المُلتبس يَتخلّق داخل منطقة بَينيّة، أي تلك المنطقة الراسمة للحدّ بين القراءة والكتابة وللحدِّ بين التأويل والحكي. لكنّ هذا الشكل يَقومُ، وهو يَنبني، على رَفع الحدَّيْن كي يَلبس التأويلُ صورةَ حكاية، وكي تشتغلَ الحكايةُ بوَصفها تأويلاً، دون أن يفقدَ النصُّ، الذي يتحقّقُ عبْرَ هذا الشكل، قابليَّتَه للتناسُخ. تناسُخٌ قد لا يُسْعِفُ في استجلاء قوانينه الدقيقة مُجرّد اختزاله، بتعميم فجّ، في مسألة تداخُل الأجناس. إنّ قوانين الالتباس مشدودةٌ أساساً إلى لعبة التأويل المعرفيّ وإلى الخيال الأدبيّ، أكثر من اقترانها بانفتاح جنس على جنس آخَر.