رداً على المقالتيْن اللتيْن تناولتا مسألة «الاعتداءات الجنسية في كولونيا»، حيث يجري كمال داود تحليلاً جوهرانياً مغلوطاً ومبسّطاً حدّ التشويه، نشر الأكاديمي الجزائري أحمد بن سعادة كتاباً بعنوان «كمال داود: التحقيق المضاد في اعتداءات كولونيا» (الجزائر العاصمة، منشورات فرانتز فانون، حزيران/ يونيو 2016، مع مقدّمة بقلم جاك-ماري بورجيه).
في هذا المقال، يفكّك أحمد بن سعادة، بطريقة منهجية، الدعاية الاستعمارية والمنطق المزدوج للأحكام المسبقة التي يطلقها كمال داود كما لو أنها من البديهيات. ومن خلال نقده لمنهجية داود وتحليلاته، يبرهن بن سعادة أنّ العقل «الخاضع للنيوكولونيالية» قد بلغ ذروة محاكاة المستعمِر. فكمال داود يقدّم «مبررات إثنية» لخطاب الغرب العنصري ويتولّى دور «المخبر المحلّي» في آنٍ معاً. في هذه المقابلة، يحدّثنا أحمد بن سعادة، الحائز دكتوراه في الفيزياء من جامعة مونتريال (كندا) والمدرّس والمؤلّف وكاتب المقالات، عن تحليله النقدي لكتابات كمال داود مرة جديدة.




■ بالعودة إلى تحليل الباحث ألبير ممّي، فإنكم تصفون كمال داود بأنه كاتب «خاضع للهيمنة النيوكولونيالية» ويقوم بوظيفة «المخبر المحلّي»، من خلال توفيره سنداً «إثنياً» إلى منظّري فكرة صدام الحضارات. ما هي، برأيكم، خصائص العقل الخاضع للهيمنة النيوكولونيالية؟
- في وصفه الدقيق للمستعمَر، يسلّط ألبير ممّي الضوء على عملية تجريده من الإنسانية، والتعمية على عاهاته المزعومة، وانعدام الإرادة الاجتماعية والتاريخية لديه، وغياب ذاكرته الثقافية وإقصائه للتاريخ. فالكائن المستعمَر يبرع في كره الذات والخجل من جذوره، فيمجّد المستعمِر ويعمل من دون كلل ليتشبّه به. وفي هذا الشأن، يشير ممّي إلى أنّ «أسمى طموح لدى المستعمَر هو التشبّه بمثال المستعمِر المرموق ومحاكاته إلى حدّ الانصهار التام فيه»، وأنّ «حبّ المستعمِر ينبع من أحاسيس معقّدة تبدأ بالخجل من الأصول وتصل إلى كره الذات».


فضلاً عن ذلك، فإنّ علاقة المستعمَر مع لغته الأم علاقة مرضية، فهو يحتقرها ويمجّد لغة المستعمِر. بالنسبة إلى ممّي، يقبع المستعمَر خارج الزمن والتاريخ: «لا يرى المستعمَر في حياة شعبه أي أهمية، أو أي حدث مميز طبع وجوده ويستحقّ بالتالي أن تحفظه الذاكرة الجماعية أو أن تحتفي به. تاريخ هذا الشعب في نظر المستعمَر ليس سوى فراغ كبير». وبالتالي، يشعر المستعمَر بالعار بسبب مرجعياته الثقافية، لا بل يتنكّر لها باستمرار ويرفضها. وأخيراً، نجده يحاكي المستعمِر ليبلغ الحالة القصوى من الرضى، ألا وهي أن يتقبّله المستعمِر-المثال.

■ أنتم تعتبرون أنّ كمال داود قد بلغ ذروة محاكاة المستعمِر، عبر استنساخ خطاب المستعمِر وسلوكه بحذافيره. فكيف انعكس هذا التطور في كتاباته؟
- اشتُهر كمال داود من خلال المقالات التي كتبها في صحيفة «وهران» اليومية (Le Quotidien d’Oran). فهو قد اكتسب شعبية واسعة نتيجة انتقاده الحكومة جهاراً وحديثه عن مشكلات المجتمع الجزائري. بيد أنّ كتاباته تحوّلت تدريجاً من النقد البنّاء إلى التشهير بمجتمعه، ومن الجرأة الفكرية إلى الشتيمة المبتذلة.
فضلاً عن حنينه إلى زمن الاستعمار، الذي يبدو جلياً في التصريحات التي يطلقها من قبيل أنّ «الأرض تنتمي إلى من يحترمها. وإذا عجزنا، نحن الجزائريين، عن احترام هذه الأرض، فالأجدى لنا أن نعيدها إلى المستعمرين»، وإضافة إلى نفوره من اللغة العربية، التي يعتبرها ميتة ويسمّيها بـ « لغة الاستعمار»، يبلغ كره الذات لدى داود ذروته في حديثه عن اعتداءات كولونيا الجنسية. ومن دون حتى انتظار ما آلت إليه التحقيقات (كشفت أنّ المسألة كانت خدعة بحت) تعامل داود مع اللاجئين العرب كـ «مغتصبين محتملين». وتأكيداً على نسخته الخاصة من الحقيقة، يتوجّه داود إلى قرّاء العالم المتنوّر والمتحضّر قائلاً: «يكتشف الجمهور العريض في الغرب، في خضمّ الخوف والفوضى، أنّ الجنس في العالم الإسلامي مريض، وبأنّ هذا المرض يتفشى ويتوسّع».
ومع صدور نتائج التحقيق في اعتداءات كولونيا والصخب الإعلامي الذي أحدثته الفضائح التي طالت هارفي واينستين في الغرب (الغرب نفسه الذي يمجّده داود)، أُصيب كمال داود بالخيبة وافتُضح عريه الفكري.

■ تذكرون قولاً لكمال داود يفسّر فيه علاقته باللغة العربية. وعلى العكس تماماً من كاتب ياسين، الذي كان يعتبر اللغة الفرنسية بمثابة «غنيمة حرب»، فإنّ علاقة داود بهذه اللغة سلمية، هو يرى أنّ الفرنسية «ملكية شاغرة»، في حين أنّ علاقته بالعربية، التي يصفها بأنها لغة استعمارية، تصادمية. فما هو السبب الجوهري لهذا الرفض للغة العربية برأيكم؟

هو «مسلم محبوب في الغرب»، أي أنّه «مسلم صالح»!


- يسعى كمال داود دائماً إلى الإيحاء بأنه يبتكر جديداً من القديم، خاصة عندما يكون هذا القديم عريقاً. لذا، فهو يستوحي القليل من كامو، ويستلهم من ديفو، وبين هذا وذاك، ينهل من أعمال كاتب ياسين.
وفي ما خصّ مسألة اللغة الفرنسية، تشير العبارتان المذكورتان إلى ثورة التحرير الجزائرية، لكنهما في الواقع متناقضتان: فالأولى تعتبر أنّ استخدام اللغة الفرنسية أتى نتيجة نصر عسكري، بينما توحي العبارة الثانية بأنّ المستعمرين قد تركوا لغتهم في الجزائر عقب الثورة. فكاتب ياسين قد فاز بهذه اللغة بقوة السلاح، في حين أنّ كمال داود استبطنها «بلا عنف ولا حرب». كذلك، بالنسبة إلى ياسين، فإنّ الفرنسية هي لغة التحرّر من نير الاستعمار، أما بالنسبة إلى داود، فالفرنسية هي لغة الحرية الفكرية التي خلّفها المستعمرون وراءهم في الجزائر. ولتأكيد حنينه إلى زمن الاستعمار، يؤكّد داود بأنّ «علاقته باللغة الفرنسية علاقة سلمية».
أمّا اللغة العربية، فهي بالنسبة إلى داود لغة ميتة «تثقلها المقدّسات والإيديولوجيات المهيمنة»، وهو يرى فيها لغة «توثينية ومسيّسة ومؤدلجة». حتى إنّ داود يذهب إلى حد القول إنّ اللغة العربية هي لغة استعمار، لا بل «استعمار ناجح» أيضاً. ولكن ماذا بالنسبة إلى الفرنسية؟ هل هي لغة استعمار؟ بالطبع لا! فلننسَ مئة واثنيْن وثلاثين عاماً من الاستعمار، ومن محو الثقافة الأصلية واستبدالها بثقافة المستعمِر بشكل منهجي. لعلّ حسن غراب من أفضل من عبّر عن هذا الواقع بقوله «حيث تمرّ فرنسا تموت الثقافة». أمّا داود، فيعتبر أنّ لغة المستعمِر هي لغة التقدّم والتطوّر، لغة الازدهار والتنوير.
هذه العلاقة المرضية باللغة العربية، التي يبدو أنّ كمال داود يعاني منها، يصفها ألبير ممّي بدقّة لافتة، وهو قد تنبّه لها منذ عقود، إذ يقول: «في الصراع اللغوي الذي يعيشه المستعمَر، تكون لغته الأم دوماً هي المهانة والمسحوقة. فينتهي الأمر بالكائن المستعمَر بتبنّي هذا الازدراء للغته الأم، الناجم عن ظروف موضوعية. فيشرع هذا الكائن، من تلقاء نفسه، بطمس هذه اللغة، السقيمة في نظره، وبإخفائها عن عيون الغرباء، ولا يبدو أنه يشعر بالارتياح إلّا عند التكلّم بلغة المستعمِر».

■ أنتم تعتبرون أنّ موقف داود «الرافض للتضامن» مع فلسطين لا ينبع من معتقدات فكرية أو من الأخلاقيات التي ترفض اعتبار أنّ القضية الفلسطينية هي القضية المحورية بهدف خوض معارك أخرى. فما هو تحليلكم إذاً لهذا الموقف المثير للجدل؟
- يكشف هذا المثل بوضوح رفض داود للمرجعيات الثقافية والإيديولوجية في مجتمعه. فالشعب الجزائري على الأرجح هو أكثر شعوب العالم محبة واحتراماً للشعب الفلسطيني. كما أنّ القضية الفلسطينية تُعتبر من القضايا الوطنية الجزائرية، وكلّ مواطن جزائري يشارك الشعب الفلسطيني معاناته.
في المقابل، وفي الوقت الذي تنهمر فيه القذائف على غزّة ويُذبح مئات الفلسطينيين صغاراً وكباراً على يد الدولة العبرية عام 2014، يكتب كمال داود أنّه «ليس متضامناً مع فلسطين». يكتب ذلك أمام هول مجزرة لم يسكت عنها حتى الناشطون التقدّميون اليهود!
والأسوأ أنّ الأمر يصل به حدّ التهليل للديمقراطية الإسرائيلية، فيقول هكذا! «كيف يسمح المرء لنفسه بأن يفتخر بـ «التضامن» فيما هو عاجز عن احترام أصول اللعبة الديمقراطية: فلمَ لا نرى يهوداً منتخبين «لدينا»، مثلما «هم» عندهم عرب منتخبون؟».
لكنّ رفض التضامن هذا ليس إيديولوجيّاً فحسب، بل نابع من مصلحة. في الواقع، إنّ هذه الرسائل المختلفة موجّهة تحديداً إلى اللوبي الصهيوني الفرنسي، الذي يصعب على المرء النجاح مهنياً إن لم ينل رضاه في فرنسا وفي هذا الغرب المتنوّر جداً كما يراه داود.
أضف إلى ذلك أنه كلما وقع الكاتب الوهراني في دوامة إعلامية، فإنّ أول من يتأهّب للدفاع عنه هم أعضاء هذا اللوبي أو المقرّبون منه.

■ في الفصل الذي يتناول الفتاوى، أنتم تذكّرون بالمقارنة التي يعقدها محمد يفسح وجمال زروق بين كمال داود والداعية السلفي عبد الفتاح حمداش، فما هو القاسم المشترك بينهما؟
- يقول محمد يفسح: «ما يجمع بين حمداش وداود هي الأحقاد والإحباطات والأسس الإيديولوجية لليمين الفاشي، بيد أنّ لكلّ منهما رؤيته الخاصة. كلاهما ماهر في أساليب التهجّم الكلامي». أمّا جمال زروق، فيضع كلاً من الرجلين على ضفّتين متقابلتين، مستشهداً بأحد مستخدمي شبكة الإنترنت الذي يعتبر أنّ «أحدهما يريد أن يصبح النسخة الجزائرية من سلمان رشدي، في حين أنّ الثاني يأمل في أن يصبح قائد الفرع الجزائري لتنظيم داعش».
أنا بالطبع أرفض الفتاوى الصادرة عن دجّالين يستغلّون الدين، ولكن يجب ألا نسكت أيضاً عن «الفتاوى الصحافية» التي أصبح داود خبيراً فيها وكانت السبب وراء شهرته. أعني تلك الفتاوى التي يزدري من خلالها داود أبناء جلدته ويستصغرهم ويضعهم في منزلة البهائم أو «الأجهزة الهضمية البحتة»، التي يسيء عبرها إلى معتقداتهم وثقافتهم، ويحمّلهم مسؤولية كلّ ما في الأرض من مصائب، ويصفهم بالمغتصبين في الجوهر، ويحطّ من قيمتهم متسائلاً «بمَ يفيد المسلمون البشرية؟».
حمداش وداود إذاً خبيران في إصدار «الفتاوى»، كلّ في مجاله، لا سيما أنّ داود يعرف الشيء الكثير عن الموضوع. أفلم يكن إماماً إسلاميّاً في مدرسته بين عاميْ 1983 و1990؟ ذلك هو ما دفع البروفسور عبد اللطيف مرداسي إلى القول إنّ «الكاتب- الصحافي والإمام، في اختلافهما الفريد، وجهان لعملة واحدة وللمسار المأساوي نفسه».

■ تلاحظون أنّ من بين المدافعين عن كمال داود، على وجه الخصوص، مانويل فالس وإليزابيث ليفي وميشال أونفراي وألان فينكيلكروت وبرنارد هنري ليفي، الذين يتقاسمون جميعاً الانتماء إلى العقيدة الصهيونية والدعم الشديد لإسرائيل. فلمَ يهتمّ هؤلاء بكمال داود؟
- في الواقع، ينتمي كلّ هؤلاء الأشخاص إلى «رابطة الدفاع» عن كمال داود، وتراهم يتّحدون في جبهة واحدة عندما ينتقد أحدهم «ابنهم الحبيب» بسبب كتاباته المهينة بحقّ مجتمعه أو لدى إصدار فتوى ما ضدّه.
يستخدم ألان غريش مصطلحاً خاصّاً يفسّر سبب اهتمام هذه «الرابطة» ببعض الكتّاب الشرقيين ككمال داود. بحسب غريش، يؤدي هؤلاء الكتّاب دور «المخبر المحلّي»، أو «الشخص الذي يُعتبر خبيراً بالسود أو بالمسلمين لا لشيء إلا لأنه أسود أو مسلم». وبحسب هذا التعريف، فإنّ كمال داود هو «مسلم محبوب في الغرب»، أي أنّه «مسلم صالح» يقول لنا ما نريد سماعه، ويمكنه المغالاة في النقد، لأنّه، كونه مسلماً، لن تُلصق به تهمة الإسلاموفوبيا». وفقاً لتوماس سيريس، يقدّم كمال داود «مبرراً إثنياً للخطابات الثقافوية والعنصرية والمعادية للإسلام».
في علم البيئة، تُسمّى علاقة المقايضة هذه بـ «تبادل المنفعة»، إذ إنّها تعود بالفائدة على الطرفين المعنيّين. وإذا طبّقنا الاستعارة نفسها على البشر، نرى أنّ هذا النوع من العلاقات لا ينجح عادةً إلا إذا بذل الطرف الأضعف قصارى جهده لتحقيق منفعة الطرف الأقوى. وإذا فشل في ذلك تُفسخ الشراكة تلقائياً. لكنّ الحكاية لا تنتهي هنا بالنسبة إلى الطرف الأقوى، فهو يعيد بناء علاقة من هذا النوع، إنما هذه المرة مع «مخبر محلّي» آخر يوفّر له «مبرّرات إثنية» جديدة.

■ تختتمون كتابكم برسالة مؤثرة، إذ تقولون: «أعتقد أنه لو لم تدفع الجزائر ذاك الثمن الباهظ للتحرّر من نير الاستعمار الفرنسي ونيل الاستقلال، لم نكن، أنا وكمال داود، لنتمكّن من التناقش بهذا الشكل! لكنّا في أحسن الأحوال، هو في ماسرة (قرية قريبة من مستغانم) وأنا في فلاوسن (قرية قريبة من تلمسان)، نحرس خنازير المستعمرين ونعيش في بؤس رهيب وفي جهل نتوارثه عبر الأجيال، ربما باستثناء قدرتنا على التمييز بين أنواع الخنازير». فهل إنّ رفض الكاتب الاعتراف بالماضي الاستعماري وبجزء من هويته هو ممرّ إلزامي لكي ينال رضى الغرب؟
- في الواقع، فإنّ من أُطلق عليهم صفة «الكتّاب الخاضعين للهيمنة النيوكولونيالية» يفعلون كل ما في وسعهم للتخلّي عن الماضي الاستعماري، وبالتالي عن جزء من هويتهم، كما شرحنا سابقاً.
فعلى سبيل المثال بين زيارتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر (في شباط/فبراير وكانون الأول/ ديسمبر 2017)، أدلى كمال داود بتصريحات عدة تدعو إلى «وقف استغلال استعمار الجزائر» و«وقف المتاجرة بحرب الجزائر» وقال «الخطاب ما بعد الاستعماري يخنقني».
خلال الزيارة الثانية للرئيس الفرنسي، صرّح بوعلام صنصال لإحدى الصحف الفرنسية بما يلي: «الجزائر هي فرنسا، وفرنسا هي الجزائر!». فلننسَ السنوات الـ132 من الاستعمار والابتزاز والجرائم والتعذيب والاغتصاب والمصادرة والبؤس! تتطالبون باعتذار فرنسا؟ يا لها من هرطقة! تريدون الاعتراف رسمياً بالاستعمار الفرنسي كـ«جريمة ضدّ الإنسانية»؟ يا للعار!
أتذكرون ما قاله الرئيس ماكرون في كانون الأول (ديسمبر)، خلال زيارته إلى الجزائر العاصمة عن ضرورة «طيّ الصفحة»؟ كيف نتوقع منه أن يقول غير ذلك طالما أنّ «المخبرين المحليين» قد وفّروا له كلّ «المبرّرات الإثنية» ومهّدوا الطريق لطيّ الصفحة؟