عشرة أعوام على رحيل سركون بولص، وما من شاعرٍ عراقي منذ السياب احتفظ بمثل هذا الحضور بعد رحيله. فقد ظلَّت كتابات سركون تأتينا وهو في العالم الآخر، إذ كشف رحيله عن غزارة مطمورة، فلا يكاد يمرُّ عام منذ رحيله حتى الآن دون أن يصدر له كتاب جديد، في الشعر أو القصة أو الترجمة أو المقالة. نشرتها «دار الجمل» بعد رحيله ولا تزال. بينما كان مقلاً بالنشر في حياته، فقد اعتنى بفوضاه بشكل جيد!
حتى أنَّ ديوانه الأول صدر عام 1985 وهو في الحادية والأربعين، وصدور هذا العدد من أعماله بعد الرحيل والتي توازي وربما تضاهي ما صدر له طيلة حياته تؤكد إنه شاعر يستطيع التواصل معنا وهو في العالم الآخر بهذا الإرث السلالي الذي خصّ به القرَّاء، وهو العازب الأبديّ بلا عترة يترك لهم ما يرثونه، ولا غرابة في ذلك فهو شاعر الأقلّية، ليس بالمعنى العِرقي، وإنما بمعنى النُّخبة. ولفهم سرِّ هذا الحضور المشعّ والبقاء الصعب المتحدي للغياب، ينبغي التدقيق في السيرة الشعرية العميقة لسركون ومصادره المتعددة التي جعلت شعره ومجمل إبداعه يحظى بهذا البقاء.

«أباريق مهشَّمة» غيرت ذائقته وكانت حاسمة في تأسيس وعيه المختلف لتقنيات القصيدة

فإذا كانت سيرته الظاهرية بسيطة وواضحة: ولد في الحبانية ونشأ في كركوك، وظهر في بغداد وسافر إلى بيروت، ثم هاجر لأميركا ومات في ألمانيا، ودفن إلى جوار قبور العائلة في أميركا.. فإنَّ الحياة الباطنية الشعرية في تجربة سركون تجسِّدُ اختماراً معقَّداً للهوية وتحولاتها في كل هذه الأمكنة، وهذا ما جعل قصيدته مزيجاً لافتاً من الذكرى والتجربة والخيال، من سحر الماضي، وغريزة الآني، وتهويم الغيبي، إذ ينطلق من ذكريات الطفولة والعائلة والمدينة والبلاد وإرثها الموغل في القدم، ليشحنها بتجارب حياته الشخصية الثرية في كل مكان من منافيه، حتى ليبدو أحياناً شخصاً قادماً من تلك الأزمنة الموغلة في القدم وهو يتجوَّلُ في حاضرنا كأنه مجرد متحف لتلك الذكريات. وهكذا بني من الدفين والمطمور برجاً عالياً ومشعَّاً.
تجارب الطفولة واليفاعة ظهرت بشكل واضح في ديوانه: «الأول والتالي»، لكن سركون لم يظهرْ فيها سيابيَّ الإنشاد واللوعة، ولا جنوبيّ الشكوى، إنما هي تكثيف لعزلة الآشوري في منفاه المسور بالأساطير ومرايا الحكايات المتقاتلة في الذاكرة. هذه واحدة من افتراقات حداثة سركون عن حداثة السياب مثلاً، «فحداثة السياب» أغوت حشداً من الشعراء ليكتبوا نصاً إنشائياً تحت قبَّة الرومانسية وظلال أشجار الزيزفون، أما نص سركون فهو التمثل الطبيعي للحداثة ما بعد السياب. لهذا قد يكون لافتاً أن نشير هنا إلى أن أبرز جانب في النظرة إلى الشعر لدى «جماعة كركوك وجيل الستينات عموماً»، قامت في الواقع على نقد البياتي، أكثر من مساءلتها لمشروع السياب. على قراءة «أباريق مهشمة» لا «أنشودة المطر» يعترف سركون أن «أباريق مهشَّمة» غيرت ذائقته. وكانت حاسمة في تأسيس وعيه المختلف لتقنيات القصيدة. كذلك فإن صورة الأب في شعر سركون بولص تبدو أقوى حضوراً من صورة الأم، وهو ما يؤكد مرة أخرى لا «سيابيته» والصورة التي يرسمها للأب ليست تبجيلية ولا عدائية، لا رومانسية ولا رثائية، وإنما هي بورتريه جمالي حيادي اعترافي لشخص عراقي، وجد نفسه أباً! ووجد الشاعر نفسه ابناً لذلك العراقي!
ومثلما حقق سركون انفصالاً ببراعة عن العائلة الصغرى إلى العائلة الكبرى حقق، في الوقت نفسه، انفصالاً سلسلاً عن البلد الجغرافي، الآني، المحدود، الناقص، واختار العيش في البلد: الحضاري، الأسطوري البعيد، المكتمل، متتبعاً شعلة بعيدة، مستضيئاً بما في داخله من ألق الشعر. وبالتالي حقق أسطورته الشخصية بالشعر، منفلتاً من العبء الفيزيائي للأمكنة والمدن، إلى غوايات السفر بحرية ناسخاً المدن بالمدن، وماحياً بالكتابة المسافة الجغرافية بين تلك المدن. ولهذا، فإن الحضور المكثَّف لأمكنة الماضي في العراق، لا يمكن إحالته إلى النمط المعتاد للنوستالجيا المقهورة، في نماذج كثيرة من شعر المنفى العراقي، فعودة سركون لتلك الأمكنة هي عودة استكشافية، وليس حنيناً لما هو مفقود، إنه يعود لتلك الأمكنة ليستمدَّ منها خريطة أخرى كي يوغل في رحلته نحو المستقبل في محاولة لإعادة استكشاف الماضي الكلي الجماعي، من خلال إحداثيات الذكريات الفردية. إنه يعيد إحياء الإرث الرافديني بصورة البطل المعاصر، ولا ننسى أنه يحمل اسم «سرجون الأكدي» صاحب السيرة الملحمية في التراث الرافديني، لكنه في الوقت نفسه «كلدو آشوري» في مزيج عراقي خاص بين الثقافة المحلية والعرق القومي، وهو وريث التراث العربي الإسلامي وإن بدا هذا الأمر غير مفهوم بدقة للبعض، فمن الوهم الشائع أن تنسب المرجعية الثقافية لسركون إلى الثقافة الغربية والأدب الأميركي تحديداً، ذلك أنه من أوائل من عرَّفَنا بأجيال الاحتجاج والرفض في الثقافة الأميركية، لكن ثمة علاقة خاصة لسركون بالتراث العربي/ الإسلامي، القارئ المدقق سيجد تأثيراً من نوع خاص لشعر أبي تمام في تجربة سركون، وهو يكرر الاستشهاد بشعره، ويتحدث عنه بإعجاب في مقالاته وحواراته، وفي تقصي ذلك في شعره سنجده متجسداً في العناية بقوَّة المعنى الداخلي وخصوصيته، خلف الوهج العالي للصورة الشعرية. كما أن علاقته الخاصة بالسينما والفن التشكيلي، أغنت قصائده، سواء بتلك اللقطات ذات الإيقاع الدرامي، أو بالعناية الفائقة في نحت صوره على نحو متماسك يجعل قصيدته متماسكة كالحجر ومفعمة بالتفاصيل الداخلية في الوقت نفسه.
أما مصدره المتعلق بمعرفة الآخر، فهو مثير فعلاً، إذ لم يتعلم سركون بولص الإنكليزية على مقاعد الدراسة، مصادره في هذا الجانب لافتة للانتباه، فقد تعلمَّها من المحتلِّين البريطانيين على مرحلتين: الأولى من جنود القاعدة الجوية البريطانية وعوائلهم في «الحبانية» أوائل طفولته، والثانية من شركات النفط الأجنبية في كركوك في شبابه. هذان المصدران اللذان يبدوان مضادين للأدب والشعر ظاهرياً، قاداه، في العمق، إلى ترجمة عيون الأدب الإنساني وفي الشعر خاصة. وعرَّفاه كذلك بفكرة التسامح الإنساني وكونية الثقافة، لكنه لم يتخلَّ مطلقاً عن روحه الشعرية المنحازة للعدالة الإنسانية وانتصاره للخاسرين! فكانت قصائده منذ عاصفة الصحراء ومن ثم ما بعد الغزو الأميركي للعراق، تفيض بهذا الشعور. وفي ديوانه «عظمة أخرى لكلب القبيلة» نماذج واضحة لهذه الفكرة.
* شاعر عراقي