القاهرة | عبر الهاتف، سألت الروائي عز الدين شكري فشير (1966): «لماذا ترفض الحوارات الصحافية بعد صدور روايتك الجديدة «كل هذا الهراء» (الكرمة للنشر)؟. ضحك قبل أن يجيب: «أشعر بأنّ هناك دائماً إساءة فهم. نقول: «أمل»، يقولون: «يأس». لم يبق سوى أن أشرح رواياتي للقراء فقرة فقرة»! أمام إصراره، اقترحت أن يتوسط لحوار بطلي روايته الجديدة، عمر فخر الدين وأمل مفيد. الاثنان يتبادلان الحكايات طوال الرواية كأننا أمام شهرزاد وشهريار عصريين، لكن بعد تبادل الأدوار حيث يتولى عمر الحكي... حكايات عن الثورة المصرية ومصائر بعض صانعيها.
لم يستجب عمر كما توقعنا، بينما وافقت أمل على الحوار. عمر غير ناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، على العكس من أمل مفيد التي تقدم نفسها بكلمات تدل على شخصيتها الصدامية: «أنا بطلة رواية «كل هذا الهراء». فاجرة: أقول الحق وأكره التعريص». تقيم في العاصمة الأميركية واشنطن بعدما قضت عاماً في سجون مصر في «قضية التمويلات الأجنبية لمنظمات المجتمع المدني»، وتخرج من السجن بعد أن يطالبوها بالتنازل عن الجنسية المصرية وتضطر للعودة إلى أميركا مرة أخرى. في نهاية الحوار الذي حصل عبر البريد الإلكتروني، سألتها: «يرى بعضهم أنك شخصية خيالية؟ مجرد شخصية روائية لا تملك مصيرها استخدمها فشير للتعبير عن أفكاره. شخصية مهزومة ربما مثل شخصيات واقعية ساهمت في هزيمة الثورة؟». أرسلت ضحكاتها قبل أن تجيب: «أنا أتلقى الهزائم لكني لست شخصية انهزامية، بالعكس. أنا أرى النصر بعيني، لكنه في الأفق. أدرك أني هزمت مع من هزموا، لأننا جماعة واحدة، لكني لست انهزامية إطلاقاً. بالعكس، تهمتي الأساسية أني متفائلة ومنبتة الصلة بالواقع. أما عن كوني شخصية خيالية، فلست أدري ما الفارق أن أكون خيالية أو حقيقية. هل «سي السيد» شخصية خيالية أم حقيقية؟ ماذا يبقى من الشخصيات الحقيقية غير الصورة والذكرى؟».

■ كان عمر فخر الدين عدمياً، أو هكذا بدا من خلال سرد عز الدين فشير، ما الذي جذبك إليه رغم التناقضات التي تبدو بينكما؟
الخمر والسجن. لم أكن بكامل وعيي حين بدأنا الحديث في الحفلة، وبعدها كنت ثملة تماماً. حين انتهت الحفلة، لم أكن قادرة على العودة إلى البيت، وهو الذي قرر توصيلي بالتاكسي الذي معه. ولا أدري ماذا حدث بعدها بالضبط حتى استيقظنا. يعني أدري ما حدث، لكن ليس بالتفصيل. هناك بعض الصور في ذهني، لكن ليس شريطاً متكاملاً للأحداث. عندما استيقظنا، كانت لحظة الاختيار الحقيقية، ساعتها كان يمكن أن أصمت تماماً وأدعه يرحل أو أطلب منه الرحيل. وقد أوشكت على فعل ذلك، لكن عندها أدركت أني لا أريد البقاء وحدي هذه الساعات التي تفصلني عن الطائرة. وأيضاً أردت استكمال ما بدأناه وأنا في غير وعيي، لكن بوعي هذه المرة. أعجبني، جنسياً، وأنا خارجة من السجن ومن سنوات من الارتباك والتعقيد، ووجدت في بساطته ما شعرت بالاحتياج إليه ساعتها بالضبط. كذلك فإني لم أفكر كثيراً، كان الأمر عفوياً. لكني حين فكرت بعدها، وجدت أن هذه هي الأسباب.

■ يكرر عمر طوال حكايتكما أنّ «الأيام الخرا فايدتها النوم»، أليس النوم نقيضاً للثورة التي تؤمنين بها؟
نعم ولا. النوم نقيض الفعل في معظم الأحوال. لكن أحياناً تكون هذه المقولة صحيحة ويكون النوم ــ وغياب الفعل ــ أفضل ما يمكن فعله لعبور مرحلة خرائية لا يفيد معها الفعل. حتى في الثورة، هناك فترات لا يجدي فيها الكلام ولا الفعل لأن الناس مندفعون كالموجة الهادرة في اتجاه لا يمكن ردهم عنه. ساعتها، تبحث عن غطاء تختبئ تحته حتى تمر الموجة. مشكلتي مع عمر أنه حافظ لا فاهم. قرر أن النوم هو الحل، فنام وأغلق عينيه عن الفرص التي تنفتح أمامه. حين تُغلَق عيناك، لا يمكن أن ترى الفرص أمامك، لأنك بساطة تتوقف عن رؤية ما يمر أمامك. وهذا ما حدث لعمر وأصدقائه، وهذا خسارة كبيرة. عمر يعوض هذا النوم/ الموت بالكلام والشتيمة والغضب وادعاء العدمية، لكني لا أشتري هذا. لا أعتقد أن هذه العدمية حقيقية ومستدامة. هي تعبير عن الغضب واليأس معاً، وهي تعبير طفولي، مراهق، لشخص لا يستطيع مواجهة هزيمته وهزيمة أحلامه. كل هزيمة مؤقتة. وكل هزيمة يمكن أن تصبح دائمة. النوم ــ ما لم يكن مؤقتاً ومحسوباً ــ يحول المؤقت إلى دائم. خسارة أن تسهم بيدك في تضييع أحلامك لأنك لا تستطيع التعامل مع هزيمتك. هذه خيبة، وخيبة ثقيلة.

■ ما الثورة من وجهه نظرك؟ هل يمكنك، كثورية، إعادة تقييم مواقف الثوار والقوى المدنية من الثورة؟ إعادة التفكير في الأخطاء التي قادت إلى الهزيمة إذا اعتبرنا أنّ ما جرى للثورة هزيمة؟
طبعاً هزيمة، وهزيمة كبرى، لكنها ليست نهاية حياتنا ولا نهاية الثورة. هل فشلت الثورة في تغيير النظام وإقامة نظام جديد؟ بالطبع. لكن هل هذا نهاية الثورة؟ بالطبع لا. الناس ينسون معنى الثورة. الثورة ليست حدثاً على فيسبوك دعت إليه صفحة «كلنا خالد سعيد». الثورة انفجار حدث في المجتمع. الانفجار يحدث بشكل غير عمدي. لا أحد يطلق ثورات. اليساريون عاشوا حياتهم كلها يخططون لثورة لم تحدث في أي مكان في العالم. حتى ثورة 1917 في روسيا حدثت من دون تخطيط، ثم قفز عليها الشيوعيون. المجتمعات تصاب باحتقان، يتزايد مع تعطل مؤسسات المجتمع عن العمل. وأحياناً يصل الاحتقان إلى ثورة، وساعتها تنفجر الأشياء القائمة كلها وتتصدع وتسقط، في أوقات مختلفة حسب ظروف كل شيء منها. الناس يصيبهم الفزع، دائماً، ويبحثون عن أي شيء يشبه القديم كي يعيد لهم ألفة حياتهم التي تهاوت. لكن القديم لا يعود، لأنه لو كان فيه الخير، لما سقط. ومحاولات بعضهم إعادته بالقوة محكوم عليها بالفشل مقدماً. «خليهم يتسلوا» كما قال الرئيس مبارك. لكن ما حدث حدث، والأرض التي يقف عليها الجميع تخلخلت وماعت وانهارت. وستظل توابع هذا الانفجار، تتوالى حتى نجد طريقة لبناء شيء جديد يتوافق والحالة الجديدة. هزمنا لأن البلد كان في أيدينا وضاع، الحلم كان في أيدينا وأضعنا فرصتنا. وبدلاً من أن نحكم هذا البلد ونقوده نحو الحلم، انتهى بنا الأمر قتلى، أو مساجين، أو نائمين، أو في المنفى. وخرجت أشباح الماضي كلها من قماقمها وأصبحت تتصارع على البلد وعلى مستقبلنا. هذه هزيمة لا ريب فيها.
■ هل هي هزيمة مؤقتة؟
برأيي هي هزيمة مؤقتة، وهذا ما قلته لعمر. أنا متأكدة تماماً أنّ هذا الهراء سينتهي، وسيأتي وقت نعود فيه ويعود الحلم للواقع ونجد أنفسنا من جديد قادرين على تحقيقه. لكن هذا لن يحدث من تلقاء نفسه. سيحدث حين نفهم أخيراً أن أمر الله غالب، أن الواقع لا يختفي لأننا نحلم بغيره.

حتى الذين ثاروا في يناير ونادوا بالحرية والمساواة ارتدّ كثير منهم إلى ترهات لا تصدق

أن علينا جرّ الحلم من الخيال وزرعه في الواقع. زرعه وسط الواقع ورعايته والحفاظ عليه كي لا تأكله تفاصيل الواقع. لكن الواقع لن يختفي، ولا بعد عشرات السنين. الحلم، الصورة التي نحملها في أذهاننا، ستكبر وتتمدد وتصبغ الواقع بشكلها شيئاً فشيئاً، لكنها لن تزيله تماماً وليس فجأة، ولا بثورة ولا حتى ببركان. ستظل هناك أشياء لا نحبها، وأناس لا نحب سلوكهم ومعتقداتهم، وظروف وضغوط لا نحبها ولا نستحقها. لكن الذكاء أن نواصل غرس الحلم في وسط هذا الواقع الذي نكره، وأن نضبط إيقاع قبولنا لضغوط الواقع أو مواجهتنا لها حسب قدرتنا على حماية الحلم كي يواصل النمو والانتشار.
أن نتخلى عن منهج الاستشهاد والخسارة النبيلة ونتبنى منهج النصر المتراكم: انتصارات ولو صغيرة، لكن متراكمة خير وأبقى من هزائم ولو نبيلة.

■ كيف إذن يمكن التعامل مع الهزيمة؟
أولاً، تعترف بها ولا تكابر. ثانياً تحاول فهم أسبابها من دون دراما ولطم. الهزيمة دائماً لها أسباب، سواء كانت خارجة عن إرادتك أو عن تقصير منك، ويجب فهم الهزيمة وتقبلها. فهم الأسباب يساعدك على قبول الهزيمة. الهزيمة كالنصر بالضبط. وكي ينتصر طرف، يجب هزيمة طرف. وبالتالي يجب تقليل الدراما المصاحبة للهزيمة، وقبولها. ثالثاً يجب تقبل نتائج الهزيمة. الاستعباط والمكابرة والعند وهراء «رفض الهزيمة» هي حالة من إنكار الواقع لا تفيد صاحبها أبداً، مهما قال وحاول إعادة صياغة الموضوع. إذا خسرت، عليك دفع ثمن خسارتك، سواء أكان معك حق أم لا. وهذا معناه أن تعيد حسابات المستقبل اعتباراً من النقطة التي وصلت إليها لا من النقطة التي كنت واقفاً عندها قبل الهزيمة. لا يمكنك تغيير الماضي. قد يمكنك تغيير المستقبل، لكن الماضي مرّ وأوصلك إلى حيث تقف. ركز إذن على الخطوة القادمة من حيث تقف (لا من حيث تستحق الوقوف). وهذا هو مفتاح التعامل مع الهزيمة.

■ لماذا وافقت على اقتراح عمر بأن يكتب حكايتكما عز الدين فشير؟ كان مبرره أنه يرتبط بعلاقة صداقة بأبيه. هل كانت هذه المعرفة كافية أم لأنّ عز سبق أن كتب «باب الخروج» التي يتنبأ فيها بما جرى للثورة في ما بعد؟
لا أعرف فشير هذا، ولم أقرأ له من قبل. عمر قال إنه يعرفه، ولو كان يعرف أي شخص آخر، لشجعته. حكايتنا لا تحتاج روائياً موهوباً. تحتاج فقط لشخص لديه الشجاعة لنقلها بأمانة، وعمر قال إنه فعل ذلك من قبل مع أبيه. خوفي كله كان تراجع عمر عن فكرة نشر الحكاية، وهو ما كاد أن يفعله بعد سفري، لكني أرسلت أهدده أني سأنشر القصة بالإنكليزية إن لم ينشرها هو. وغالباً لأنه لا يعرف غير فشير هذا، فقد أعطاها له. على أي حال، المهم هو حكايتنا لا حكاية فشير.

■ لكن في النهاية اخترتما روائياً من حقه العبث فنياً بالحكاية وعدم التزامها من أجل الفن، هل التزم فشير الحكاية؟
أعتقد أنه التزمها أو حاول الالتزام. على العموم، هو أرسل لنا المسودة، أنا وعمر، وتناقشنا سوياً فيها وأدخلنا تعديلات عديدة لأنه أحياناً أخطأ في فهم مشاعري وما كان يدور في رأسي، أو عمر هو الذي أخطأ في نقل هذه المشاعر له. لكني راجعت كل هذا وأرسلت له التعديلات واحترمها كلها.

■ هل كان فشير مخلصاً لحكايتكما؟ ما رأيك في روايته/ روايتكما؟
أظن ذلك، لكن ما لفت نظري ليس الإخلاص أو عدمه، بل كيف أصبحت قصتنا رواية عندما وضعت تفاصيلها معاً. الحقيقة أني حين قرأتها، فوجئت. الويك إند الذي قضيته مع عمر كان لطيفاً، وأراحني نفسياً وجسدياً وساعدني على الخروج من مصر، كأني غسلت جسمي وروحي مما علق بها أثناء هذه السنوات. لكني لم أنظر لهذا الويك إند باعتباره رواية، لم أشعر بأنه رواية إلا عندما قرأتها «على بعضها»، وبالترتيب وبالمزج الذي قام به فشير. ومن ساعتها وأنا أسأل نفسي كم مرة عشت ما يمكن أن يصبح رواية ولم ألاحظ. وكم شخصاً يعيش تجارب تصلح للرواية، لكنها تظل حبيسة تجربته الشخصية؟ ربما يحتاج كل منا لروائي يصاحبه في حياته ويأخذ منها لقطات يضعها مع بعضها في إطار يخرج ما فيها من جمال ومن ألم ومعنى كي يراه هو نفسه. قد يحتاج كل منا أن يكون روائياً، ولو حتى بينه وبين نفسه، وهو ينظر إلى حياته وتفاصيلها. قد يجعل هذا الحياة أجمل، أو حتى أكثر احتمالاً.

■ ألا تشاطرينني الرأي بأن فشير أعطى بعداً سوداوياً للحكاية؟ أليس للثورة نقاط مضيئة أم أنّ ألعاب الروائي أضافت هذه السوداوية لأسباب فنية؟
تقصد عمر؟ فشير لم يفعل شيئاً أكثر من تنقية الحوار وإضافة بعض الوصف الذي حكاه له عمر كي يفهم مغزى الحوار بيننا. الذي أعطى الحكاية بعدها السوداوي هو صديقي عمر السوداوي الكئيب اليائس. هو الذي يسود الحكاية في وجهه ووجه من يحب. قلت له ساعتها إن حكايته منشئة للحكاية لا مجرد مرآة لها وغالباً لم يفهم. سخر مني وهي علامة عدم الفهم عادة. حاولت أن أفهمه أنه عندما لا يرى سوى الكوارث في كل حكاية، فإنه يحول هذه الحكايات إلى كوارث حقيقية. في كل موقف فتحة، في كل حائط ثقب. هناك وسيلة لتسلق أي عائق أو الالتفاف حوله. إذا وقفت أمام الجدار وصرخت أنه يسد طريقك وأنك مقضي عليك لا محالة، ثم انهرت بكاءً على الأرض، فإنه بالتأكيد سيقضى عليك. إذا وقفت وتأملت الجدار وبحثت عن وسيلة للتعامل معه، عن فتحة أو ثقب أو عتبة أو سلم أو طريق التفافي أو نفق أو أي شيء، أكيد فرصك في النجاة ستزيد. عمر يلجأ إلى البكاء والنوم والاستسلام للاكتئاب والإغراق في وصف الجوانب البشعة لواقعه التعيس. وأنا معه في أن واقعه تعيس، لكن وسط كل هذه التعاسة ــ وسط كل هذا الهراء ــ هناك طرق التفافية وسلالم وعتبات وفتحات، وعليه البحث عنها. وهذا ما حاولت فعله في حكاياته كلها. حاولت أن أعيد كتابتها له أو أغير في نهايتها، لكن اليائس لا يفهم مهما شرحت له. هنا نعود لسؤالك الأول: النوم أحياناً ــ التجاهل ــ هو الحل مع اليائس حتى يفيق من يأسه أو يزهق. أسلوب عمر السوداوي أيضاً أيام خرائية حلها النوم (والنصح، والزعيق).

■ برأيك، ما الذي جذب فشير كروائي إلى حكايتكما، رغم أنه يرى «أنّ عدد الذين يعتقدون أن قصصهم تستحق النشر أكبر بكثير من عدد القراء الذين يشاطرونهم الرأي»؟
لو كنت مكانه وجاءتك رواية جاهزة للنشر تحمل اسمك، فهل ترفض؟ لعله يشعر بالملل، لعله ليس لديه ما يقوله، لعلنا قلنا ما يجول بخاطره، لم لا تسأله؟

■ ألم يشجعك ظهور الرواية ونجاحها على العودة إلى روايات فشير السابقة؟ وهل يمكن أن يستكمل عز حكايتك فى رواية أخرى؟
أنا لا أقرأ أي روايات عربية الآن. كما قلت لعمر، أريد أن أغسل كل هذه الفترة. أقرأ روايات كتبت بلغات أخرى، وأعيش بعيداً عن مصر – لفترة، حتى أعود – وأقرأ أشياء لا علاقة لها بمصر أو العرب. أريد أن أغسل روحي كي يمكنني العودة من جديد، كي لا أصبح جزءاً من هذا الهراء الذي أوقن أنه سيزول. وساعتها قد أدعو فشير للكتابة عني من جديد.

■ هل لا يزال لديك أمل في العودة إلى مصر؟
سأعود، قطعاً، حين يفيق عمر من نومه، وحين تنكسر موجة الهراء الحالية. حين نعود إلى الاعتراف بأن العقل زينة وأن الجهل خيبة، لا العكس. حين نعود للاعتراف بأن المنطق له فائدة ــ أن اتنين زائد ثلاثة يساوي خمسة، وأن الشيء لا يكون نفسه ونقيضه في الوقت نفسه ــ وأن الهبل مضر بأصحابه. حين نعود إلى الاعتراف بأن الأشياء لها أسباب وأن تغييرها يحتاج لوسائل. حين نعود للاعتراف بأن الخرافات لا تفيد.

■ ألا تخشين في حال العودة، من الاتهام بخدش الحياء، مما ظهر بوضوح في الرواية؟ فشير مجرد ناقل حكايات كما يقول في روايته؟
هذا جزء من الهراء الذي ساد البلاد. حين يكون خدش الحياء تهمة وازدراء الأديان تهمة والمساس بهيبة مؤسسات الدولة تهمة والتعليق على أحكام القضاء تهمة، لا نكون في دولة بل في قسم شرطة. وأنا لن أذهب للقسم مرة أخرى. كفاية ما ضيعته من وقت في هذا الهراء.

■ لكن أحمد ناجي المتهم بخدش الحياء، يرى أن كتابة فشير كتابة ذهنية، وشخصياته في «كل هذا الهراء» أحادية، وأنه كاتب إصلاحي لا ثوري، وأنه لم يكتب روايتكما أنت وعمر، بل رواية إحباطه من إصلاح المؤسسات؟
أنا لا أعرف هذا الشخص ولا أفهم لم زجّ به فشير في روايتنا، ولا أعرف كيف يعطي شخص لنفسه الحق في الكتابة عن أناس لا يعرفهم. لكن هذا جزء من الهراء الذي تركته خلفي ولا أريد إضاعة وقتي فيه.

■ رواية فشير السابقة «باب الخروج» أعطاها عنواناً فرعياً «رسالة علي المفعمة ببهجة غير متوقعة». يرى بعضهم أن البهجة لم تكن إلا في العنوان فقط، بينما هو مولع بالديستوبيا؟!
لا أعرف، ولست مهتمة في الحقيقة بولعه. لكن مصر في ديستوبيا حقيقية، لا تحتاج هي الأخرى لروائي كي يبرزها.

■ فشير نفسه ــ كاتب روايتكما ــ سافر إلى أميركا، هل التقيتما؟ تناقشتما في الأوضاع؟ هل وجه لك أي نصائح؟
لا لم نلتقِ. هو يدرس في مكان ما وسط الغابات في الشمال الشرقي. أنا في واشنطن، قلب الحدث ــ قلب المؤامرة النابض.

■ من موقعك في قلب المؤامرة النابض، هل تتابعين الأوضاع في مصر؟
أتابعها يومياً أكثر من مرة. أدخل على مواقع صحيفتين، ربما ثلاث أو أربع مرات، واتصفح فايسبوك وتويتر، وأتابع ما يحدث وما يقوله الناس، لكني لا أشاهد التلفزيون قط، ولا في أميركا بالمناسبة. كلما تابعت، شعرت بأن مصر ومن فيها يرحلون في الاتجاه المعاكس للتاريخ. حتى عمر وأصدقاءه. كأن لعنة ما أصابت الجميع، حتى الذين ثاروا في يناير ونادوا بالحرية والمساواة ارتد كثير منهم إلى ترهات لا تصدق.

■ لماذا يظن بعضهم أن المصريين ليسوا مهيئين لممارسة الديمقراطية؟ أو باختصار كما قال بعض المسؤولين أثناء ثورة 25 يناير (But When?)؟ يرى آخرون أنه لا يجب الحديث عن الديمقراطية، بينما نحن مشغولون بمعركة ضد الإرهاب فما رأيك؟
لا أحد مهيأ لممارسة الديمقراطية. الممارسة هي الطريقة الوحيدة للتعلم. البلاد التي سارت في هذا الدرب، سارت فيه بخطوات. لم تكن ديمقراطية أميركا – عند الثورة الأميركية – عظيمة، لكنها تحسنت مع الوقت، ومع وجود عيوب وردات متكررة. ونفس الشيء في كل البلاد الديمقراطية. لكن الممارسة تتحسن والقواعد تترسخ وتتطور مع الوقت. المجانين فقط هم من يظنون أن النظم الديمقراطية تولد كاملة. لا شيء في العالم يولد كاملاً. المجانين فقط هم الذين ينتظرون – أو يطالبون – بديمقراطية كاملة وفورية، أو يستبعدون إمكانية قيامها لأننا لسنا جاهزين لديمقراطية كاملة وفورية.

■ أخيراً، هل لديك رسالة للثورة أو اليائسين ممن هم على شاكلة عمر فخر الدين؟
صلاح جاهين قال: يأسك وصبرك بين أيديك وأنت حر/ تيأس ما تيأس الحياة راح تمر. وأضيف أنه في الحالتين، لا أحد يهمه أمرك، لا أحد ينتظرك، فقرر بنفسك كيف تريد لحياتك أن تكون.

■ هل أنت متفائلة؟
أنا موقنة بأن مصر ستنفض عن نفسها هذا الهراء، بطّ وين؟





«ألف ليلة وليلة» مصرية بائسة

«أريد بعض الراحة، أريد أن أطفئ النور وأنام، لسنة أو سنتين، من دون أن يزعجني أحد. زهدت بكل شيء: الحكومة والدولة والديموقراطية والحرية. وكل هذا هراء وعبث وموت. ولم أعد أريد منه شيئاً. كل ما أبغيه هو بعض الراحة». وردت هذه الكلمات على لسان بطل رواية «باب الخروج» (2011) لعز الدين شكري فشير التي اعتبرها النقاد رواية استشرافية لما جرى بعد ثورة 25 يناير.
مطابقة أحداثها لما جرى في الواقع، دفعت بعضهم الى تشبيهها بـ«كتالوغ الثورة». الهراء الذى يشير إليه صاحب «غرفة العناية المركزية» في روايته السابقة يعود ليكتب عنه روايته السابعة «كل هذا الهراء» (2017 ـ دار الكرمة). رواية واقعية هذه المرة، لا استشرافية، عن أمل مفيد الأميركية ذات الأصول المصرية التى تقضي عاماً في السجن بتهمة التمويل الأجنبي. تخرج بعد أن تتنازل عن جنسيتها المصرية لتعود إلى أميركا. قبل رحيلها بساعات، تلتقي بعمر فخر الدين شاب مصري محبط ويائس يحكي لها حكايات عن شخصيات وأحداث جرت فى مصر بعد 25 يناير. يحكى عمر كأنه شهرزاد عن مصائر أبطال الثورة، من قتل ومن سجن، ومن هاجر. كأننا إزاء «ألف ليلة وليلة» مصرية بائسة. جمع عمر هذه الحكايات وسلمها إلى عز الدين شكري فشير (كان على صلة بوالده) ليكتبها في رواية، فكتبها مع نداء «لأصحاب القلوب الضعيفة والأحاسيس الخُلقية والدينية والوطنية المرهفة ألَّا يقرأوا هذه الرواية. قراءة هذه الرواية ليست عملاً إجباريّاً، بل اختيار من القارئ.
ومن ثَم يتحمل القارئ مسؤولية أي خدوش أو أضرار قد تصيبه». لم تكن الرواية حسب تعبير فشير «سرداً لأحداث الثورة، بل حاولت أن تضع يدها على الحالة العامة للجيل الذي تتحدث عنه، وتحاول الإمساك بما يعانيه وما يدور في ذهنه، من غضب ومن إحباط ومن شكوك عميقة ومن صراعات وتخبط».




الكتابة من خلفية دبلوماسية

أبوه الروحي الشاعر محمود درويش، منه تعلم كيف تكون اللغة كاشفة. أما أساتذته في الرواية، فكثيرون، ربما كان ماركيز أبرزهم. منه تعلم أن تكون الجملة الأولى للعمل مثل «رصاصة» حتى لا ينشغل القارئ بالحدوتة بقدر انشغاله ببناء العمل الفني وتقنياته وشخوصه. السرد التقليدي بالنسبة إليه خداع للقارئ. منذ البداية، يكشف له ما يريد أن يقوله، لكنه يراهن بعد ذلك على «المتعة» باعتبارها غاية الكتابة الكبرى. عز الدين شكري فشير (1966) ليس فقط روائياً أصدر سبع روايات، وصلت اثنتان منها إلى جائزة «بوكر»: «غرفة العناية المركزة» إلى القائمة الطويلة في الدورة الأولى للجائزة، و«عناق عند جسر بروكلين» إلى القائمة القصيرة (2011). هو أيضاً أستاذ للعلوم السياسية، ودبلوماسي عمل في الخارجية المصرية لسنوات، قبل أن يطلب الحصول على إجازة مفتوحة، وهو أيضاً محلل سياسي، وكاتب مقال. سافر إلى أميركا للعمل في إحدى جامعاتها أستاذاً للأدب العربي منذ عام «لأن الملل كان يقتلني في القاهرة» كما قال.
التعدد إذاً أبرز سماته، لكنه يؤمن «بأن مقعد الروائي أهم بكثير من مقعد السياسي». على مستوى الكتابة، نجد أنفسنا في كل رواياته أمام حدث، يتعدد رواته. يقول: «كل يرى حسب زاوية نظره، وموقعه، بل حسب انعكاس الضوء، وحسب الوقت الذي تنظر فيه إلى الحدث». روايات بلا بطل رئيسي تقريباً. خطوط البطولة التي يحفظها السرد التقليدي لا يمكن البحث عنها في أعمال فشير... من وجهة نظره، «لا أحد يلعب دور البطولة من البداية إلى النهاية، وليست هناك حكاية واحدة في الحياة. هناك حكايات عديدة، لكل منها أبطالها ولكل حكاية زاوية وأبطال وتفاصيل».
أعماله الأخيرة، يراها بعضهم متشائمة، أو تعبيراً عن ديستوبيا مصرية، لكنه، شخصياً، متفائل لأنه على اقتناع بأن ما جرى من تغيير حقيقي وعميق لا يمكن هزيمته. يوضح: «لنرَ ما جرى في فرنسا 68. لم يحكم الشباب، بل جاء ديغول في شبه انقلاب عسكري. لكن الثورة أعادت صياغة المجتمع. ما جرى في أميركا أيضاً في الستينيات، لم يرحل نيكسون، ولكن حركة الشباب أيضاً غيّرت أميركا، قضت على سياسة الفصل العنصري. هذا النوع من التغيير لا يمكن الوقوف في وجهه. ولكن التفاؤل محكوم بالعمل الجاد»!

* لمتابعة أمل مفيد على مواقع التواصل:

https://twitter.com/TheAmalMofeed

https://www.facebook.com/The.Amal.Mofeed?ref=br_rs