دمشق | لطالما تعلّقت بارتياد معارض الكتاب. كان الدخول إليها، بالنسبة إلي، أشبه بدخول أليس أرضَ العجائب. أناقة الكتب المرتبة فوق الرفوف بحسب موضوعاتها، والأعمال الكاملة التي تخص كاتباً من الكتّاب... هذا عالمٌ سحرني منذ الطفولة. كان يكفيني في بعض الأحيان أن ألمس كتاباً وأمسّد عليه براحتي متحسسةً نعومة الغلاف، أو أن أتنسّم رائحة الورق.
أمّا الحصول على كتاب موقَّع من كاتبه وحضور الأمسيات والندوات المرافقة لمعارض الكتب، فكانا من بين أحلام مراهقتنا. كمْ تمنيت لو يتوقف الزمن في مثل تلك اللحظات.
معرض الكتاب في بيروت. بيروت المدينة التي مثلت بالنسبة إلينا مركز إشعاع ثقافياً، بدور نشرها المعروفة وصحفها التي تبوأت مراتب قراءتنا الأرفع. معرضٌ وبيروت، وكان ينبغي أن أكون فيهما كي أوقِّع مجموعتي الشعرية التي صدرت أخيراً في العاصمة اللبنانية، لكن الحظّ لن يسعف.
تبدو عبارة «معرض الكتاب» بالنسبة إلينا، نحن السوريين الذين نعيش في الداخل، كأنها آتية من زمن سحيق. زمنٌ يجب أن ننبش الذاكرة عميقاً كي نصل إليه. كنَّا ننتظر معرض مكتبة الأسد السنوي كي نقتني الكتب الجديدة الصادرة في بيروت والقاهرة وبقية عواصم العرب. كانت فكرة المعرض كاحتفالية بالكتب والكُتّاب حدثاً مهماً بالنسبة إلينا كقرَّاء، كانت طقساً أشبه بالعيد.
توقف الأمر تماماً ما يقارب السنوات الخمس. وبات من النادر أن تصلنا الكتب الجديدة، شأنها شأن الغالبية الساحقة من الصحف والدوريات العربية. بل إنَّ الحديث عن الكتب والقراءة في بلد يعيش على وقع الموت اليومي بات حديث مترفين. إذ كيف يمكن لمواطن سوري لا يكاد يتدبّر لقمة عيشه أن يفكر بشراء الكتب؟! ماذا عن انقطاع الكهرباء، وضغط العمل المتواصل؟! ماذا عن أصوات الانفجارات ورصاص الجنازات وأخبار الموت المتواصل؟ّ
غير أننا، نحن القراء السوريين الذين لا نزال في بلدنا، لم نعدم الوسيلة. ثمة الأصدقاء الذين يزورون بيروت بين فترة وأخرى، أيام معرضها على وجه الخصوص، فيجلبون لنا أحدث الإصدارات. ونظراً إلى غلاء الأسعار، مقارنة بدخل السوري الآن، تكتفي كل ثلّة من ثلل الأصدقاء بنسخة واحدة من الكتاب أو الدورية تتناوب على قراءتها. غلاء أسعار الكتب ذاته، دفع بمكتبات كثيرة في سوريا إلى السير في دروب القرصنة، إذ تشتري نسخة أصلية من الكتاب وتقوم بتصويره طبق الأصل وتبيعه إلى السوريين بسعر يقوون على تدبّره.
هل يقترب أمر الكتاب الورقي، مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، من أن يكون نافلاً وذكرى قديمة؟ لقد انتشرت المكتبات الالكترونية على الانترنت، وبات من السهل تحميل الكتاب ومن ثمّ قراءته، فما الحاجة إلى اقتناء كتاب ورقي؟ حتى هذه الكتب الالكترونية باتت محل إعارة بين الأصدقاء ذوي الاهتمامات المشتركة. وقراءة الكتب على الكومبيوتر أو الآيباد لا تحتاج إنارة قوية كي يستطيع المرء مواصلة شغفه. ربما كان هذا أفضل الاختراعات التي اجترحتها البشرية، أفكر بيني وبين نفسي.
لعل فكرة معرض الكتاب باتت ذلك الحلم الرومانسي الذي سبق أن دغدغنا في شبابنا. لعلنا ذلك الجيل الذي كان يتباهى بأن لديه مكتبة تحتوي على آلاف أو مئات الكتب الورقية، وكان يسجّل تاريخ اقتنائها والذكريات التي رافقت ذلك. أنا من ذلك الجيل، ومهما قرأت من كتب الكترونية أظلّ أفتقد الكتب الورقية ويراودني حنين مباغت لأروقة معارض الكتب وأجنحتها ومقاهيها، وصخب بشرها وحركتهم قبل كل شيء.