حالما يَرد اسم علي الوردي (1913 ـــ 1995)، ينهض في الأذهان شغله الغني عن البيئة الاجتماعية في بلاد الرافدين، خاصّة مع توارد أنباء تفيد بأنّ «هناك جزءين جديدين من موسوعته «لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق الحديث» لم يطبعا بعد، وهما موجودان لدى ابنه حسان المقيم في أميركا».
ملحق «كلمات» يبحث اليوم في مدى حيوية أفكاره وآرائه ودرجة صلاحيتها للعراق ولمجتمعه اليوم بعد عقود على نشرها. هي عملية تنقيب متواضع في منجزه، وتقديم مقاربات عنه وربطها بعراق اليوم. من جملة ما يحتويه هذا الملف أيضاً بحث سريع في ظواهر اجتماعيّة تُبرز النكوص الذي نحن فيه، مثل «الطائفيّة» و«العشائريّة»، حيث المجتمع يعود مع كلّ انهيار سياسي إلى نقطة الصفر. سلسلة الانهيارات التي لا تتوقف عن تحديث أشكالها وأبطالها «الساحِلين» و «المسحولين» فيما بعد، هي سبب استعادة آثار هذا المفكّر العلماني، الذي لا يمكن أن ننفي بقاء نظرياته صالحة حتّى لمقايسة المجتمع الحالي: هل قلت «مجتمع»؟ لعلّ الأصوب في القول: «مجتمعات» عراقيّة، بعد كلّ هذا التشظي والهجرات والتحزّب المدمّر للهوية الوطنية، حين تغدو التركيبة الداخلية للفعاليات السياسية مبنية على طوائف وقوميات لا أكثر.
واحدة من مزايا نهج الوردي، التي تأخذنا إلى قراءته دائماً، اعتماده فكرة أنّ «عهود التاريخ في الواقع مترابطة ومتشابكة»، مما يعدّ مدخلاً عاماً لاستيعاب جهده الكبير في «لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق الحديث»، حيث جعل من تتبع أحداث العراق، سبيلاً استقرائيّاً لبلوغ مراتب الفهم لذلك التاريخ وحركة المجتمع فيه. ذهابه في «اللمحات» إلى الماضي، ليس لأرخنة معتادة أو توثيق محمود للأجيال المقبلة، بقدر ما هو اشتغال على «عقدة عراقيّة - عربيّة»، تتمثّل في التلقي السريع للأحداث والسير، من دون تأمّل التفاصيل ومؤدّيات تكوّنها، فيحدث ما أسماه بـ «التنويم الاجتماعي»، حين تكون «العقائد والميول صنيعة البيئة الاجتماعيّة». ومعها يستفحل مباشرة «الحماس الجمعي» الذي يقتل الموضوعيّة، ويركن خصوصيات الأفراد جانباً. فرادة علي الوردي وبقاء سيرته حيّة بخصوصية ملحوظة، فوق حسّ المغامرة الذي تمتع به وتمحيصه المثير في أحوال الناس، عناصر متأتية من أنّ العراق يفتقر إلى التراكم، بحيث تكون القطيعة بين الأجيال العراقيّة نتيجة طبيعيّة لئلا نملك «علي وردي» جديداً أو في الأقلّ منافساً حديثاً للسطوة التي امتلكها اسمه... فما من مؤسّسات تسوّق باحتراف لشخصيات خلاقة بيننا، كي تقدّمها إلى العالم، على أنّهم مفكّرون معاصرون يساجلون الجموع ويثيرون الأسئلة ويستفزّون أهل الماضي.
في شرح الوردي للمأزق العام مع الوعظ والواعظين، ضمن أحد فصول كتابه «وعاظ السلاطين»، ما ينطبق على الراهن المحلي ودور رجال الدين (نقصد الأعلى صوتاً والأكثر تحريضاً)، الذين خسروا ويخسرون أكثر في تحقيق توازن مُفترض بين حضور ديني يستوعب تطوّرات الحياة وبين حريّات أفراد لا تحدّها وصايات باسم «المقدّس» على الأرض.
ومن الخصال العراقيّة التي تلمّسها المفكّر في صفحات وعاظه، ذلك «المجتمع المزدوج» الذي يقتل بذور الزعامة في مهدها (يريدها لكنّه لا يساعد على ظهورها). وهنا ما يستحق أن نتفحّصه ونضع له مقاربة من عوالم عراق ما بعد 2003. ألم تكن فئات من المجتمع قاسية بحقّ ناشطين خرجوا للمرّة الأولى في احتجاجات بغداد عام 2011؟ احتجاجات كانت خروجاً عن مسار «صمت اجتماعي»، بوصفه ثمرة من ثمار خبيثة بذرها نظام الاستبداد البعثي بالتخويف والإخضاع. وهو ما استثمرته الأحزاب الدينية المتنفّذة أيّام ذلك الاحتجاج، لتشجيع روايات التخوين واتّهام المحتجّين برغبة مضمرة في تحصيل المكاسب. وما نذكره مثال من عشرات الوقائع التي تؤكّد بقاء نظرية الوردي عن «حالة من الازدواجية»، تتقاذفها بين حين وآخر قرائن من عدم الثقة بين الجمهور وقادته أو المتصدّرين فيه للشأن العام، ممّا يتكرّر في أكثر من عهد وحقبة؛ بفعل عنف الحياة السياسية في العراق ودمويّتها. إذ لا تعطي مجالاً لتحوّلات منطقية في بنية المجتمع ووعيه، إنّما في الغالب تجرّه إلى الوراء جرّاً وتتركه يعاني من الاختلال.
ثمّة من يأخذ على العلامة، بأنّه جلد الشخصية العراقيّة والمجتمع عموماً، وأشاع تياراً من الإحباط بتعميم العيوب وجعلها أنموذجاً لتفكيك هنات البنية الاجتماعية. لكن أليس ضرورياً أن نقرأ ذواتنا وننصت لمواطن ضعفها وإخفاقاتها في اعتبارات السلوك القويم؟
لو كان الوردي حيّاً! أيٌّ من اجتهاداته الفكريّة سيتراجع عنها لصالح بحث جديد في دهاليز المجتمع العراقي اليوم، بعد كلّ هذه التمزّقات والتقلبات السياسية؟ وهل سيكون هذا العلامة «مطلوباً عشائريّاً» لو تحدث عن تغوّل القيم البالية وصعود شعبويات شتّى على سطح الحياة العراقيّة الآن؟ وهل سننظّم من أجله تظاهرة أو وقفة في ساحة التحرير لو تعرّض للاختطاف أو التهديد، رافعين ورقة بيضاء كُتب عليها: #كلّنا_علي_الوردي