فاجأني سؤال أحد الأصدقاء ونحن نتجوّل في أحياء مدينة كوسينتزا في جنوب إيطاليا. سألني ببرودة: كيف كان لي أن أتأكّدّ أنّ الفجوات التي كُنّا صادفناها على جدران بعض الأبنية هي فعلاً من آثار الحرب. طال استغرابي لكلامه، لكنّي ما لبثتُ أن اعترفتُ في قرارة نفسي بالهوّة التي بيني وبين صديقي الإيطالي رغم تناغم أفكارنا وانسجامها في مُختلف أحاديثنا حول العمارة وهوية المدن وأسس الترميم ومبادئه.
كُنّا في سنوات تخصّصنا في كلّية الهندسة المعماريّة في روما نمضي ساعاتٍ طوالاً نُراقبُ فيها أبنية عصر النهضة وسط العاصمة التّاريخي، ندور حولها ونحنُ نصغي لشروحات أساتذتنا، نتوه عن كلامهم مراراً ثمّ نعودُ ننكبّ فوق دفاترنا نرسمُ حدود البناء، نُعيدُ تركيب أحجامه على الورق، نختارُ منها تفصيلاً أو أكثر. ننقلها سريعاً بقلم الرّصاص أو إذا تقاعسنا عن ذلك، نلتقط لها صوراً بآلات التصوير قبل انتشار الهواتف النقّالة. كُنّا نراقب على الواجهات غير المرمّمة أيّامها آثار التحولات والتعديلات التي طرأت عبر السنين، نرصد بعض الإضافات البسيطة أعلى الأبنية أو نتتبّع الأشكال التي خلّفها انهيار صفحة الطلاء القديم هُنا وهُناك. كنتُ قد سمعتُ من قبل عن تداعيات الحرب العالميّة الثّانيّة على بعض أحياء روما العاصمة من دون أن أتمكّن من تبيّن أثرها مُباشرةً، بل من خلال انتباهي لانتشار عمارة الخمسينيّات بشكل جُزرٍ محدودة النطاق مكان ما اقتلعته الصواريخ الجويّة وسط نسيج عمراني يعود للقرن التاسع عشر أو ما قبل. غير أنّنا لم نكُن قد صادفنا بعد آثار الحرب كما عهدتها في أبنية بيروت إلاّ في رحلتنا إلى جنوب البلاد أوائل ذلك الرّبيع البعيد.
ما حفر هذه الحادثة في ذهني هو أنّني أولاً فوجئتُ يومها بأن يكون هناك من لم يُصادف تلك الفجوات التي تخلّفها شظايا القذائف من قبل. أو أنّها ربّما كانت تعترضهم من غير أن يُميّزوها عن سواها من آثار شيخوخة المباني، فلا يخصّونها بفئةٍ أو تسميةٍ مُعيّنة فيكونُ شأنها شأن الطلاء المُتساقط أو النوافذ المُتداعية. أمّا ما حصّن تلك الذكرى من النسيان كذلك، فهو أنّني أدركتُ من خلالها أنّ الثقافة البصريّة التي تفرضها الحروب والأزمات الدّاخليّة ليس من البديهي أن تكون مُتاحةً للجميع. بل إنّ ما تفرضه الحرب من عاداتٍ وأساليب، يبتكرها المواطن بالتعاطي مع المساحات المشتركة والخاصّة وواجهات الأبنية والأروقة والشرفات والنّوافذ، تُشكّلُ بالرغم من تجذّرها بسلوكيّات معظم الناس وضعاً استثنائياً لا قاعدة ثابتة. ذلك أنّ ما ألفناه لدرجة اعتباره جزءاً لا يتجزّأ من العمارة الحديثة في بيروت (أي عمارة بدايات القرن العشرين وحتّى أواخر الستّينيّات) من بصمات المعارك، إن من آثار فجوات لا تزال غير مسدودة، أو من محاولات عفويةٍ لإصلاح ما حفرته الأسلحة على جدران الشرفات، أو من حلول استنبطها السكّان لاستصلاح ما كان عُرضةً للقصف المُباشر من غرفٍ ومنافع، هو خيرُ تجسيدٍ لإحساس التخلّي وفقدان أي مرجعيّة تنظيميّة في ظلّ احتدام الصراع الأهلي الكبير.
هكذا صارت لغة التعاطي مع تبعات الحرب تُشابه وإن بوتيرة أخف، تلك الحلول العفوية التي تمرّس اللبنانيّون بابتكارها في ظلّ غياب الرؤيا الشاملة لنمو المدينة وتقلّص دور المؤسّسات في رسم خطط توجيهيّة لتحولاتها. وهكذا كان مشروع إعادة تأهيل طابق أخيرٍ دمّر جزءٌ من سقفه فرصةً لإضافة حجمٍ جديد فوقه، وكانت ورشة إعادة تأهيل جدار اخترقته القذائف عذراً لإقامة نوافذ أو حتّى شرفاتٍ جديدة فيه. تماماً كما كانت المدينة تكتظّ وتتكوّم فوق بعضها في فترات نزوح أهل الريف حيثُ كُنت ترى طوابق جديدة تعلو مبانيها غير آبهة بمراعاة التصاميم الأصلية، وقد اعتمدت النماذج الهندسيّة الأكثر رواجاً. وقد عكست بذلك الذوق المُتبدّل بدون هوادة. لكني إذا عدت اليوم إلى صورة آثار الحرب العالمية في إيطاليا وآثار الحرب الأهليّة على أبنية بيروت تحديداً، فلأني كما كثيرين غيري لا أزال أحملُ حتى اليوم آثار الشظايا اللاهبة بعد مرور السنين، وقد رأيتها مطفأة ومتعافية على واجهات البنايات في أوروبا. وعَدت صديقي يومها بأننا سنطوف معاً في شوارع بيروت في الصيف ذاته وسأُعرّفه بأبرز وأغرب بل بأجمل ما حفرته حرب لبنان على صفحات مبانيها. حدثته أيضاً عمّا أعطته الحرب لسكانها من مجالات للتعبيرعن ذاتهم وعن تعاطيهم مع موضوع الذّاكرة، مجالات جديرة باهتمام الباحثين والمعماريّين الشباب أمثالنا.

الخطّة الموحّدة في الترميم تقضي بمحو آثار الماضي وتعطيل كلّ ما يذكّر بتلك الحقبة

هكذا علّه يُدرك فعلاً كيف كان لي أن أتعرّف على آثار الحرب...
وهكذا كان. ساقتنا رحلتنا في صيف العام نفسه إلى زواريب الأحياء المتاخمة لخطوط التماس التقليديّة عند طريقي الشام وصيدا القديمين، وبعض الخطوط المستحدثة في بيروت الشرقيّة أثناء حرب الإلغاء. بدأنا رحلتنا من مدافن طريق الشام باتّجاه شارع محمّد الحوت في رأس النبع، تستوقفنا مراراً الواجهات الشرقية الأكثر عُرضةً لرصاص حروب الشّوارع. في أوائل الألفيّة الثالثة أيامها كانت معظم الأضرار قد عولجت وكانت حركة البناء قد نشطتت عند ذلك الحزام وصولاً إلى الطيّونة فكنيسة مار مخايل في الشيّاح مروراً بخط صيدا. لكنّ ما ظلّ يُذكّر بالحرب بشكلٍ مُباشر هي تماماً تلك الآثار التي لم تجد عمليات الترميم وإعادة التأهيل سبيلاً إلى محوها. أذكرُ منها على سبيل المثال الفجوات المتكاثرة على الواجهات التي لا نوافذ فيها ولا مجال لمعالجتها إلّا بنصب سقالات تُكلّف المالكين مبالغ طائلة لن يقتنع أكثرهم بجدوى إنفاقها. أمّا ما ميّز الأحياء هذه، فهو كذلك تراكم أزمنة مُختلفة ضمن البناء الواحد. زمن الحرب وزمن العودة الأولى لبعض السكّان أوائل التسعينيّات من داخل لبنان، فعودة آخرين من خارجه وغيرهم، هكذا في مراحل زمنيّة مُتباعدة خلّفت ما خلّفته من تفاوت ظاهرٍ في عمليات الترميم على الأبنية القديمة والحديثة.
هُنا بادرني صديقي الإيطالي في مشوارنا بسؤال حول عدم توحيد اللون والمواد المُستخدمة في مُختلف شقق إحدى البنايات التي طالعتنا عند معمل الريد شو القديم على خط طريق صيدا. هل سعى بعض سُكّان الأبنية للاتّفاق على خطة موحّدة للنهوض بأبنيتهم في ظلّ غياب دور المؤسّسات العامّة بذلك؟ أذكُرُ أنّني عوضاً من الإجابة عن ذلك السؤال الثاني، رحتُ أستعرضُ معه ما اختاره السكّان من حلول في ذلك البناء العائد لأواخر الخمسينيّات والمحاصر بين جبهتي قتال. عالج سكّان الطّابق الأوّل بعض آثار الحرب حول النوافذ بسدّ الفجوات بالإسمنت، وقد استخدام الطّلاء الأبيض فوق الأصفر الباهت الأصلي عند مستوى الشرفات فقط. تكهنّ كلٌ منّا أنّ عملية الطلاء قد تكون قد استدعت دقّةً أكبر بالتنفيذ. لذا، فقد حُصرت بأماكن سَهُل الوصول إليها أي تلك التي تقع تحت المظلّة الخّاصّة حصراً. فالحيّز البصري الخارجي الخاصّ بأهل البيت حُدوده الشرفة التي كان يكثر استخدامها في فصل الصيف قبل أن تسمح القوانين بإقفالها لاحقاً. أمّا باقي الأقسام من الواجهات الخارجيّة، فالوصول إليها أكثر صعوبة ومعالجتها لن تحظى بالأولويّة المناسبة في حملة إعادة التأهيل العفويّة تلك. أمّا في الطوابق الأخرى، فقد لجأ بعض السّكان إلى إعادة رسم حدود أبواب الشرفات بشكلٍ يتناغم مع فجوات القذائف سعياً منهم للاستفادة أكثر من النور الخارجي. وكان الطّابق الأخير هو الوحيد الذي اعتنى سكّانه بإكساء واجهاته وطلائها كاملة لسهولة عملية رفع السقالة من السطح فوقه مباشرة، فبان هو الدخيل بمظهره النظيف وسط اللوحة الغرائبية تلك.
أمّا في الحالات النادرة التي كانت عمليات الترميم فيها تشملُ أبنية بأكملها، فكانت على الأغلب لتحولّها كُلياً عمّا كانت عليه بإكسائها بمواد بناء أكثر عصريّة، كحجر الترافرتين أو الرّخام، نازعةً عنها صفة القِدَم ومُلحقةً بها معاني جديدة تطمس ذاكرة الحرب وتُقصيها عن سكّانها الجدد والقدامى على حدٍّ سواء. خلُصنا إلى أن الخطّة الموحّدة في الترميم التي سأل عنها ذلك الصديق هي موجودة متى ارتبطت بإرادة لتبديد آثار الماضي وتعطيل كلّ ما يذكّر بحقبة الحرب. ليس فقط من آثار للقذائف والرّصاص بل حتّى كلّ ما يرتبط بالإطار الحاضن لتلك الذاكرة من أشكالٍ وألوانٍ ونوافذ ودرابزين وبلاط وسواها. جميعها تُصبح عنواناً لزمن ينبغي الانقلاب عليه بحسب مفهوم إعادة الإعمارالسّائد الذي مهّدت له عمليات الهدم الممنهجة والواسعة النطاق في وسط بيروت.
خلُصنا في تلك الزيارة عند تقاطع غاليري الإتّحاد في منطقة البوشريّة أنّ أصعب ما سيواجهه مُستقبل البلاد هو الانتقال من تراكم أزمنة ما بعد الحرب إلى ذاكرة مُشتركة لها. فذكرى الحرب باتت محصورة رسمياً بـ 15 عاماً ونصف العام بالتحديد، تتمتّع بقصّة واضحة تبدأ في الثّالث عشر من نيسان ١٩٧٥ وتُسدل عنها الستارة في الثّالث عشر من تشرين الأوّل ١٩٩٠. حتّى أنّها بالرّغم من فظاعتها ووحشيتها التي لا تقلّ عنفاً عن حروب الجوار اليوم، قد احتلّت ظاهرياً على الأقلّ شكل فصلٍ جلي المعالم. أمّا ما يصعبُ زجّه في خانة تاريخيّة مُحدّدة، فهو الفترة المفتوحة على تحولات المدينة وإعادة إعمارها بما حملته من مطبّات وتخبّط وتدهور في المشهد العمراني. قد تُجزّأ مرحلة ما بعد الحرب الأهلية من ناحية إعادة الإعمار لمجموعة فصول فرعيّة أبرزها خطط إعمار الوسط التاريخي، وارتباطها أو انفصالها عن مشاريع أُخرى وُلدت في فترات سابقة كما بعد حرب السنتين آخر عام ١٩۷٦. ثانياً موجات الاستصلاح العفوي للنسيج المحاذي لخطوط التماس بشتّى أشكاله. وثالثاً ربّما هو فترة تفاعل هذه المبادرات الفرديّة على فرض لغة العفوية والاستسهال في التعاطي مع موضوع إعادة التأهيل بشكلٍ خاص، وموضوع عصرنة العمارة الحديثة والقديمة بشكل عام.
انتهى مشوارنا في محيط الوسط وتحديداً عند حدود حي زقاق البلاط. قلتُ لصديقي إنّ ما لا يقولهُ كثيرون أو ما لا يرغبون بالبوح به أنّ الحرب قد حافظت بطريقةٍ غير مباشرة على أجزاء كبيرة من تراث المدينة المعماري من الفترة العثمانية وفترة الانتداب الذي كان آخذاً بالاندثار منذ ستينيّات القرن الماضي تحت وطأة الفورة العمرانيّة آنذاك. فرصة أضعنا جزءاً كبيراً منها مع مشاريع إعادة الإعمار قلتُ لصديقي. أمّا الجزء المتبقّي الذي ما لبث أن سألني عنه، فما يزال ينتظر منّا تجاوباً للنهضة به ولو كُنّا نطمح إلى حلول أكثر جدّية من مبادرات الترميم العفويّة على خطوط التّماس تلك.