قد يكون الأدب سبيلاً للخلاص ووسيلة لإفراغ شحنة من الأفكار والمشاعر السلبيّة التي نكتسبها من الواقع وما يحيط بنا من ظلم و قهر. ولئن كانت الكتب والمقالات السياسيّة هي الأكثر تعبيراً ومعالجة لمثل هذه الأوضاع، فإنّ الرواية باتساع آفاقها وكثرة شخصيّاتها وتَحَرُّرَهَا من كلّ القيود تبدو الأنجع في نقل قتامة الصّورة وإعادة إنتاج الأحداث. رواية «شارلي» (دار فضاءات ـ عمّان) للتونسي نبيل قديش خير دليل على ذلك. يصحبنا الرّاوي في جولة إلى فترة محوريّة من تاريخ تونس، كاسراً كلّ حدود الزّمن. القارئ - في فترة ما بعد الثّورة - يجد نفسه ملقى في عالم ظنّ أنّه نسيه وأسدل عليه الستار نهائيّاً. غير أنّ قديش استطاع بذكاء فائق أن يعود وينبش تلك الفترة على طريقته، فأخذ يصوّر تلك الحقبة مبتدعاً شخصيات عدة، وخالقاً أحداثاً لا تظهر أهميّتها من الوهلة الأولى بل تنكشف تدريجاً كلما تقدّمنا في الرواية. المتمعّن في «شارلي»، يلاحظ أنّ وتيرة السّرد لا تشجّع منذ البداية على المواصلة. غير أنّ تصوير الشخصيات من جهة وإقحام القارئ في الأحداث من جهة أخرى، يقلبان الوضع.

يجد القارئ نفسه مباشرة في قلب حكاية سيظلّ يبحث عن بدايتها، آملا الإمساك بالخيط الرّابط. إنّ ما يُحْسَبُ لكاتب «زهرة عبّاد الشّمس» هو البنية السرديّة، كأنّه يضعنا في منتصف الطريق منذ البداية، ويعلمنا أنّ أحداثاً كثيرة فاتتنا، ولن نستطيع فهم ما يجري من حولنا إلّا عندما نتقدّم في فصول الرواية.
مشهد شارلي، هذا الملاكم القديم وهو يعود من المدينة إلى ريف من أرياف ولاية باجة في الشمال الغربيّ التونسيّ، يولّد أكثر من تساؤل: ما الذي جاء به إلى هذا المكان؟ ما سرّ خشونته وحدّة طبعه؟ ثمّ ما هو سبب عداوته مع «الفرعون»؟ أسئلة كثيرة تتالى وتعترضنا أجوبتها تارة في شكل حوارات مباشرة أو حوارات باطنيّة، وطوراً في فصول منفردة خصّصها قديش لتوضيح بعض النّقاط الغامضة. ذلك أنّ قديش يتوغّل بنا في عمق الأحداث ويوصلنا إلى أقصى درجات التّيه والاستفهام، ثمّ ينتشلنا من حيرتنا عبر تسليط الضّوء على ماضي بعض الشخصيّات لتتّضح الرؤية قليلاً، ثمّ سرعان ما نعود إلى الغموض والتشويق. إنّها لعبة الراوي مع القارئ. يتلاعب به ويتحكّم في «جرعات» التشويق.

رواية تدور عند انتهاء حكم بورقيبة وبداية حكم بن علي
جماليّة السّرد تشدّ القارئ وتجذبه، ولكن من المهمّ أن نشير إلى أنّ لواقعيّة الأحداث دوراً محورياً. نبيل قديش اختار أن تكون أقاصي ريف ولاية باجة إطاراً مكانيّاً، حيث الأوضاع المتدهورة والانقطاع التّام عن صخب المدن الكبيرة. كما أنّ الشخصيّات تكاد تكون محاكاة أو نسخاً لشخصيّات نعرفها جيّداً (في الحيّ، السّوق، مركز الشّرطة...). لقد نجح الرّاوي في إضفاء الواقعيّة على عمله، فكأنّنا - ونحن تصفّح هذه الرواية - قد ألفنا عالمها وشخصيّاتها حتى صارت جزءاً منّا نحفظ أدقّ تفاصيلها عن ظهر قلب.
لقد نقلنا مؤلّف «العبث مع نيتشه» إلى فترة انتهاء حكم بورقيبة وبداية حكم بن علي. والحقيقة أنّ هذه الفترة (الانتقاليّة) على قصرها، تبدو مركزيّة في تاريخ البلاد. اختار قديش تسليط الضوء على هذه الفترة لكن بأسلوب طريف. فقد تتبّع وقع تغيرات وتقلّبات هذه المرحلة على مجموعة من المواطنين التونسيّين في ريفٍ في الشمال الغربيّ. كأنّ الراوي أرادها أن تكون جمهوريّة مصغّرة ونموذجاً يتناوله بالدّرس والتّحليل ويضعه تحت المجهر ليرى عيوبه ويفضحه. إنّ رمزيّة الأماكن والأحداث والشخصيّات مكّنته من التّدقيق في هذه المرحلة عبر إعادة إنتاج للواقع. فما عبد الجبّار «الفرعون» - كما يدلّ اسمه - سوى رمز السلطة المتجبّرة بهياكلها وآلتها البوليسيّة القمعيّة التي تخرس كلّ صوت حرّ، «تنتهك أعراضهم» (العلاقة الحميميّة بين الفرعون وزوجة الشادلي الطّبال).
يقف شارلي (رمز معارضة النظام ورفض الذلّ والخضوع) في وجه الجبروت. كذلك تظهر شخصيّة «الوحش» الرافضة لقرارات «الفرعون» (إجباره على الزواج). هنا يصوّر الكاتب ذلك الصراع الأزلي بين أصحاب السلطة ومعارضيها. صراع نشأ منذ بدايات الحقبة البورقيبيّة ليتواصل مع حكم بن علي. إنّ صراع هاتين الشخصيّتين يفسح المجال أمام نبيل قديش ليذكّر بطغيان أصحاب القرار والسلطة في تلك الفترة وتغلّبهم على كلّ معارض بالمكيدة وبأساليب رخيصة. وأمام تضخّم صورة صاحب السلطة وتغوّله، يأخذنا قديش إلى الجهة المظلمة من شخصيّة الفرعون ليكشف لنا عن ضعفها (أي وهن السلطة وعجزها). يعود بنا إلى طفولته ويكشف لنا عن مآسيه والصعاب التي واجهته. هكذا تنكشف أمامنا معطيات جديدة عن إحدى أكثر شخصيّات الرواية تأثيراً لتنتهي الرواية، وقد فهم القارئ أنّ شارلي هو والد الفرعون، وأنّ أمّه ما زالت تبحث عنه.
يبدو أنّ الراوي قد تفطّن إلى أنّ الأسئلة التي خمدت منذ بداية الرواية من الممكن إعادتها لتسيطر على وجدان القارئ. أمام اقتراب الانفراج وانحلال العقدة، تعود الأمور إلى سيرتها الأولى بتغيّر النّظام الذي أدى إلى تغيير على مستوى القرية. يرحل الفرعون ويعوّضه هتلر كأنّ قدر هذه القرية المنكوبة (البلاد عموماً) أن تتخلّص من مستبدّ لترتمي في أحضان آخر. أمر يحدث بلبلة في القرية، وسيؤدّي مباشرة إلى المشهد الأخير في الرواية: شارلي قابع في السّجن، عبد الجبّار الفرعون يسلّم مكانه لـ «هتلر»، والأمّ تائهة وسط الحشود تبحث عن ملامح ابنها الذي فقدته منذ سنوات. هل ستتعرّف إليه بعد كلّ هذه السنوات؟ هل سيخرج شارلي من السّجن؟ كيف ستكون فترة الحكم الجديد؟ كلّها أسئلة لا نعثر لها على أجوبة في الرواية التي تنتهي عند هذه النقطة. لعلّ الكاتب تعمّد ذلك ليشوّقنا للجزء الثاني.