إيلينا فيرانتي... تلبس طاقية الإخفاء | معظم المقالات التي تتناول حكاية إيلينا فيرانتي (1943ـ مواليد نابولي) سيرةً وأدباً تبدأ على هذا النحو: «لا نعرف من هي إيلينا فيرانتي، لكننا نعرف أنها من نابولي، تكتب باسم مستعار». قد تكون درست في بيزا فعلاً كما تقول في رواياتها، وقد تكون عاشت في اليونان لفترة، لكن المؤكد أن نابولي تركت جرحاً عميقاً في قلبها ونزيفاً في نصوصها. في مقابلاتها القليلة، التي أجرتها مطبوعة من دون أي تفاعل مباشر مع المحاورين، يروق إيلينا كثيراً أن لا يعرفها أحد، وأن يعرف الجميع كتبها. أخيراً، وصلت روايتها «قصة الطفلة الضائعة» (Storia della bambina preduta)، الصادرة في 2014، إلى قائمة «بوكر» القصيرة هذا العام، مما ضاعف من اهتمام العالم بالكاتبة التي لا وجه لها سوى نصوصها، إلى حد ظهور شخصيات ادعت أنها إيلينا فيرانتي. قبل أسبوعين مثلاً، طاردتها أشباح الهولوكوست، وذهبت «هآرتس» إلى التأكيد أن فيرانتي هي آنيتا راجا، ابنة أحد الناجين من المحرقة. لكن المخيال الإسرائيلي «الخصب»، الذي ذهب إلى الجزم بأنّ راجا هي هوية كاتبتنا، تعرض لنقدٍ لاذع من الناشر الذي نفى الأمر، مطالباً الجميع بالتوقف عن هذه «الحماقات».
هي امتداد لكارلو ريفي وآخرين ممن كتبوا ضدَ الفاشية والفساد الذي تقوده كامورا
في إيطاليا، ظل اسم إيلينا فرانتي موضوعاً على الرف منذ صدور باكورتها الروائية «الحب المتحرش» (1992 ــــL’amore molesto) حتى 2002، موعد ظهور بوحها الثاني «أيام الهجران» (I giorni dell’abbandono) الذي تحول إلى شريط سينمائي لروبرتو فاينزا في 2005). ثمة من يقول إنها استغرقت عقداً كاملاً لتتفحص حشرية الوسط الأدبي الإيطالي، لتتقين تماماً من اختفائها خلف كتبها. في بدايات الألفية الفائتة، ارتفع صوت نسوي معترض ومحق، ضدّ ميل بعض النقاد الإيطاليين للقول إن إيلينا فيرانتي اسم مستعار لكاتب لا كاتبة، تحت ذريعة الشجاعة التي تتميّز بها رواياتها. اختفى هذا الميل سريعاً، بعدما ثبت للنقاد أن أسلوب فيرانتي هو أسلوب امرأة وحسب. غير أن ذلك لم يغلق السجالات والاحتمالات عن هويتها الفعلية. في إيطاليا، ثمة من يقول أيضاً إنها متأثرة بإلسا مورانتي (زوجها ألبرتو مورافيا كان كاتباً هو الآخر)، بسبب التشابه اللفظي بين اسم الأخيرة والاسم الذي اختارته إيلينا فيرانتي لنفسها، إلى جانب التشابه في روح النصوص، خاصةً أن مورانتي كانت قاصةً تحظى بشهرةٍ معقولة في إيطالياً، وتحديداً في الوسط المهتم بالأدب النسوي، وقد كتبت قصصها بين 1948 و1982، بينما تشكل الخمسينيات والستينيات، وصولاً إلى السبعينيات، محطات أساسية في روايات فيرانتي. إنها قصص تتناول حياة النابوليين المعدمة، في ظل الصراعات السياسية والاجتماعية التي سادت المدينة، وبهذا المعنى، هي قصص ليست جديدة، تناولها كتاب إيطاليون معروفون، كإدواردو دي فيليبو، ولويجي بيرانديللو وأخيراً روبرتو سافيانو. تكمن إضافة فيرانتي، في الزمن النابولي الذي تتناوله، وفي شجاعة مفرطة ضدّ الفساد والفاشية والكامورا.
تقول فيرانتي إن الكتاب أقوى من الكاتب: «اخترت، بدلاً من أن يحبسني القراء في الكتاب، أن أحبس شخصياتي في الكتب. هذا تكبّر، وهذا من سمات الكتاب: التكبر والاختلاف. الكتابة ليست عملاً عادياً». لكن الخوف من الكامورا (التسمية المتداولة للمافيا في أكبر مدن جنوب إيطاليا) عامل قابل ليؤخذ في الاعتبار. عامل آخر في هذا السياق، هو اختيارها لسرد حيوات أشخاص قريبين منها، وأماكن يمكن القول إنها شخصية. غير أن هذا ليس سبباً حاسماً، ويبقى السبب الحاسم هو رغبة فيرانتي نفسها بأن تتحول إلى كتاب على رف، بدلاً من أن تكون صورة في صحيفة، من دون أن يلغي ذلك، أن ثمة نقداً يوجه لطفرة الذاتية في رواياتها. هذه الذاتية، شكلّت مدخلاً لكثير من المهتمين للبحث عن هوية فيرانتي الأصلية انطلاقاً من نصوصها. في تحقيق نشرته أخيراً صحيفة «كورييري ديلا سيرا» الشهيرة، توصل الفيلولوجي (عالم اللغة ومحقق النصوص) الإيطالي ماركو سانتاغاتا بعد دراسته للنصوص، إلى أن إيلينا فيرانتي، هي مارشيلا مارمو، التي ينطبق عليها زمنياً وطبقياً ما ينطبق على إيلينا في «السلسة النابوليّة» لفيرانتي. ذهب إلى «جامعة فيدريكو الثاني» في بيزا وراجع السجلات ودرس الإمكانات الاقتصادية لطلاب الحقبة، خالصاً إلى أن طالبة واحدة في وقتٍ ما كانت من نابولي آنذاك، وهي إيلينا فيرانتي، أو البروفسورة التي تدرّس التاريخ في الواقع، مارشيلا مارمو. إنها جامعة لطلاب الطبقة الوسطى وما فوق، وفيرانتي تكثر في روايتها من النزعة البيداغوجية، مشددة على أهمية التعليم لتجاوز الطبقة السفلى التي أتت منها. تعززت قناعة سانتاغاتا بعدما اكتشف أن ثمة سلسلة قرابة بين مارشيلا مارمو وكارلو ريفي، مؤلف كتاب «المسيح يتوقف في إيبولي» الذي يناهض الفاشية كنظام متفشٍ. وهذا ما يمكن لمسه أيضاً في كتابات فيرانتي نفسها. خصوصية المجتمع النابوليّ بوجود الكامورا ساطعة في رواياتها. في صقلية يمكن أن تكون المافيا هي ندرانغيتا أو كوزا نوسترا، لكنها في نابولي كامورا الصاخبة. فيرانتي، هي امتداد لكارلو ريفي وآخرين طبعاً، يكتبون ضدَ الفاشية انطلاقاً من موقف أهلي ضدّ النظام وضدّ الفساد الذي تقوده كامورا (هنا يمكن احتمال الخوف عاملاً أساسياً في التخفي). بيد أن عمل سانتاغاتا ليس بالضرورة أن يعني شيئاً. لقد ذهب إلى مارشيلا مارمو محملاً بكل هذه الحقائق، فأبدت الأخيرة استغراباً شديداً، ونفت نفياً قاطعاً أن تكون هي الكاتبة النابوليّة الشهيرة إيلينا فيرانتي.
ليس هناك ما يدعو للتفاؤل بظهورها في حال فوزها بـ «بوكر». يمكن للناشر أن يستلم الجائزة. الذي يقرأ فيرانتي سيستجيب لرغبتها بالتخفي، من دون أن يستطيع كبح رغبة التعرف إليها. توصل النقاد الإيطاليون إلى قناعة بأنّ شخصيتها الحقيقية لا تهمّ، ولو حازت «بوكر» أو «نوبل». المهم هو تلك النصوص القادرة على إيجاد مساحةٍ للجميع بداخلها. كان بعض النقاد الإيطاليين يضربون على الطاولة تفاعلاً مع نصوصها... السرّ في النصوص نفسها!