كما في أغلب أعماله السابقة، يبني جبور الدويهي روايته الجديدة «طبع في بيروت» (دار الساقي) على أمكنة وتفاصيل ووقائع يعرفها أو عاش فيها أو له وجهة نظر فيها. صاحب «اعتدال الخريف» اشتغل دوماً على وضع شخصياته على طبقات مرئية وغير مرئية من التاريخ والجغرافيا والسوسيولوجيا البشرية وعلاقات الناس بالمكان والوقائع وتفاصيل العيش. دارت أحداث رواياته في مسقط رأسه زغرتا وفي جوارها الريفي القريب كما في «مطر حزيران» التي وصلت للقائمة القصيرة لـ «جائزة بوكر العربية»، وكذلك في «ريا النهر»، بينما ذهب في «حي الأمريكان» إلى المدينة الأقرب طرابلس، ونزل قليلاً إلى بيروت في روايته «عين وردة»، ونزل أكثر في «شريد المنازل»، وها هو يكتب روايته الجديدة بالكامل عنها. التاريخ بالمعنى الاجتماعي والثقافي الشامل هو جزء جوهري في سرديات جبور الدويهي، وداخل ذلك جرى ويجري تأريخٌ ثمين وجذاب للحروب اللبنانية وللحياة اللبنانية. رواياته تستثمر البيئة والعادات على خلفيات شخصية وجماعية لها علاقة بالهوية والذاكرة، ولكن ذلك يحدث بأساليب وتقنيات روائية طبعاً. هنا حوار معه حول تجربته الروائية انطلاقاً من «طبع في بيروت»، آخر روايته:

■ جبور الدويهي مواطن في بلد مرّت به أزمات كثيرة، ولا تزال. أزمات كتبتها روايات، ما مدى علاقتك بالروايات التي تكتبها؟
ـــ أعتقد أنه لا يوجد شيء ملفت للنَّظر في حياتي بالمعنى الرِّوائي. درست الأدب الفرنسي، ثم عُيّنت أستاذاً في الجامعة اللبنانية، وتقاعدت مؤخراً. بمعنى أنه مسار مضبوط، وحياة سهلة، ليس فيها ارتباكات. إضافة إلى الاستقرار الوظيفي، أعيش استقرارا عائليّاً. فأنا متزوِّج ولدي أولاد وأحفاد، ومقيم بين زغرتا وإهدن. هذا الاستقرار الذي اكتسبته مع الوقت، بعد فترة شباب ثورية بعض الشَّيء، تلك الفترة التي كان طلاب الجامعة اللبنانية ينظّمون اعتصامات ومظاهرات. بعد ذلك استكنّا، وجاءت كتابة الرواية كبديل عن هذا الإخفاق، لأنه إخفاق يساري بامتياز، خصوصاً على شخصٍ من بيئتي، فجأة يجد نفسه عاجزاً عن القيام بأيّ شيء. قد تكون الكتابة الروائية إعادة كتابة العالم كما نشاء، عالم عجزنا عن تحقيقه في الواقع. قد يتضمَّن كلامي شيئاً من الاستسلام، لا أدري. لكنّني بدأت بالكتابة ولا يمكنني التخلّي عنها، إذ وجدت فيها شيئاً قوياً يعنيني، ويساعدني أن أقوم بتلك العمليّة البسيطة المُسَمَّاة خلق عوالم، وهذه تصبح متعة الإنسان مع التقدّم بالسن. فلقد ألّفتُ كتباً، ويوماً بعد يوم، أكتشف أنه لم يعد لي حق التدخل فيها، فهذه الكتب أصبح لها حياتها. فالكاتب ينتهي دوره عندما ينهي كتابه، كما ينتهي دوره مع نفسه، وأحياناً قد يغار الكاتب من كتبه عندما يلمس مدى اهتمام المحبّين والمعجبين بها وليس به.

■ من قراءتي للفصل الأول لروايتك الجديدة «طبع في بيروت»، سردت قصّة شاب يحمل كتاباً، أراد نشره فلم يستطع، وكانت كل الأبواب موصدة في وجهه. فهل هذه القصة مقتبسة من واقع حقيقي نعيشه؟ ولماذا تطرقت لكتابة هذا الموضوع؟
ـــ لا بد من لحظة أو مرّة يوجِّه فيها الكاتب السلاح على نفسه، أي أن يصوِّب على نفسه وعلى الكُتَّاب أمثاله. أن يحمل شخصٌ مخطوطةً وما من أحَد يطبعها له. وهذا وارد كل ساعة، فعدد الكتّاب في ازدياد، وعدد القرَّاء يتضاءل. يسأل الناشر البطل في الرواية: ماذا تريدنا أن نطبع لك؟ ما هذا، شعر؟ نحن لا نطبع شعراً. فيقول لهم هذا ليس شعراً، فيردّون عليه نحن لا نطبع نثراً؟ فما الحل؟! يعرضون على الكاتب وظيفة مصحّح في المطبعة. هنا يشعر البطل بالإحباط، ومن ثمّ يرضى ويدخل في القصّة التي تمثل هذه الرواية. موقفي أنا ملتبس من هذه الشخصية الحاملة لهذا الكتاب، أو النص الذي لا هو شعر ولا هو نثر، والذي يصوّر أنّ علاقته بكتابه هي علاقة نبويّة. فهناك أناس يعتبرون كتابتهم سراً داخلياً مقدّساً، إرثاً أو منزلاً. هناك كتّاب، لا يمكنني تسميتهم بسبب علاقتي الملتبسة مع هذا الصنف من البشر الَّذين أحبهم وأجدهم مضحكين في الوقت ذاته، يعتقدون أنهم يواجهون الوقت ويواجهون الزمن والموت بالكتابة. الكتابة بالنسبة لي أمر آخر، إنَّها متعة، تكتبين الكلمات وتمحينها وتعيدين كتابتها... فما من جُمَل أو أي شيء مفروض عليك. الكتابة بالنسبة لي، صناعة وحرفة، ويمكن أن أقول أنّها نسيج. وفي الوقت ذاته، نجد أنّ الطباعة تتراجع تدريجياً، فتسمعينهم يقولون لم يعد هناك حرفة اسمها طباعة، ولم يعد هناك خطاط، ولا أحد يريد أن «يوسّخ» يديه، بل أصبحوا يجلبون التصاميم من المكاتب المختصّة على USB، ويطلبون إلى العامل طباعتها. أصحاب المطابع هم مَن يقولون لي هذا الكلام، أنّ الحرفة قد ماتت، وأن مصففي الأحرف قد ماتوا جميعاً.
في روايتي الأخيرة هذه، تكلَّمت عن الحبّ، والحياة، وبيروت، وتزوير العملة، والحرب العالميّة الأولى، والانتداب، والاستقلال، ومطبعة تقول الكثير عن لبنان، مطبعة طبع فيها الدستور، وطبعت فيها الجرائد، والأشعار المعارضة وداهمتها مخابرات الأمن العام... كل هذه الأمور التفَّت حول المطبعة خلال قرن من الزمن، يمكن أن تفتح أبواباً كثيرة، فحوّلت هذه الأحداث وجعلتها تدور في كتاب صغير نسبياً.

■ تقول دائماً أنك أعددت هيكلاً أوّليّاً لمسار الكتابة، فما هي المبادئ والأسس التي ارتكزت عليها لبناء هذا الهيكل؟
ـــ بصراحة لا أعتمد مساراً واحداً في كتابة الروايات، هناك روايات انطلقتُ فيها من أمكنة، وفيما بعد أُسْكِنُ فيها ناساً. روايتي الأخيرة «طبع في بيروت» كانت بدايتها من مطبعة، و«حيّ الأمريكان» من الحي الذي يطلّ على نهر أبو علي، تلك الأدراج التي تنزل من القبة. «عين وردة» كانت بدايته من بيت قديم مهمل لعائلة من الوجهاء. «جريان النهر» كانت بدايتها من مقهى على ضفة نهر... وهكذا. وبعد ذلك، تأتي الشخصيات، ومن ثم تأتي عملية السرد وتكوين الحبكة.
في أعمال أخرى كان الأمر مختلفاً. كتبت «اعتدال الخريف» مثلاً، انطلاقاً من العنوان، أوّل ما فَكَّرت به أنّ هذا العنوان جيِّد وسأرى ما يمكنني تأليفه انطلاقاً منه. لكنّ هذا الأمر نادراً ما يحصل. وبعد ذلك صرت أترك العنوان للنّهاية، فأسأل أصدقائي لأجد العنوان المناسب للرواية. فـ «اعتدال الخريف» بدأ بالعنوان، وقد كان مثل المفكّرة الشخصيّة الحميمة. في «مطر حزيران» لم أكن أريد أن أكتب عن حادثة الكنيسة التي حدثت في زغرتا بين عائلتين، لكنّ بعض الأصدقاء ثاروا عليّ بقولهم أنَّ لديَّ هذه القصّة الغريبة والقويّة والفاتحة للحرب الأهلية، ولو أنها أتت قبلها بثماني عشرة سنة أو أقل، حيث أنّ هذه الحرب كانت المؤسّسة لهذا النوع من العنف الأهلي. وبصراحة شدّد عليّ الراحل سمير قصير، وأشخاص آخرون مثل سمير فرنجية الذي كان والده طرفاً في هذه الحادثة. وهكذا كتبت شيئاً يعنينا في إطار رواية وقالب روائي. فعرفت الموضوع ولكنني لم أعرف كيف أبدأ فيه هل أُخبِّر؟ لا، لأنّني لست صحافياً لأنقل الخبر كما هو. حينها، حاولت أن أجعل الناس هي التي تتكلم وليس أنا. فكنت أرى من خلال عيون عدّة، من وجهات نظر عدّة، من الولد، من المرأة، ومن المسِنّ، ومن كل الجهات، فكتبت رواية جمعت كلّ شيء عن هذه الحادثة. أمّا رواية «شريد المنازل» فكانت قصّة عمّة أمي وزوجها، ليس لديهما أولاد فقاما بتبنّي ولد أعرفه وأحبّه وكانت علاقتي به جيّدة، وقد مات الآن، مات باكراً. لقد كان تلميذي، وعند وفاته، وجدت معه ورقتي نعوة. فأبواه الحقيقيّان استردَّاه ونعياه، وأبواه اللَّذان ربَّياه نعياه أيضاً، فحظي بنعوتين، وتقريباً جنازتين. فقرَّرت أن أكتب عنه. انطلقت الرواية هنا من المكان، ومن الشخص ذاته. فصغت الرواية وأضفت بعض التَّفاصيل: طفولة تشبه طفولتنا، وشباباً يشبه شبابنَا، يساري، نزل إلى بيروت... وهكذا كانت القصة.

■ هل أتت روايتك «طبع في بيروت» بجديد ومختلف عن الروايات السابقة؟
ـــ طبعاً، أحاول في كلّ مرّة أخذ الوقت الكافي للكتابة، كي لا أكرّر نفسي. فأنتظر سنتين أو ثلاث لكتابة رواية، أحاول أن أكتشف، خلال كتابتها، احتمالات أخرى للسرد. ولكن لا يمكن للكاتب أن يظهر خارج علاقته مع اللغة، فالإنسان يشبه نفسه، وأنا، رغم أنّني أفرح بالتَّمَيُّز بأسلوب محدّد، يكون بمثابة توقيع، لكنِّي أحبُّ أن أُغير وألَّا أكرّر ذاتي. ومن أوجه التغيير، أنني من النوع الذي يلتصق بشخصيّاته أكثر من التصاقه بلغته. فأنا لا أفرض لغة محددة على الشخصية. وعندما أُغيِّر المكان، أُغيِّر معه الموضوع والصياغة، فتتغير اللغة قليلاً. وهذا التعديل يأتي متناسباً. فنحن، مثلاً، في المطبعة نتكلم لغة «المطبعجية»، أي ماذا يمكن أن يتكلّموا، وكيف يمكن أن يفكروا. وأنا لا أشترط عليهم، ولا أصنع الناس باللغة مثل بطلي «فريد أبو شعر»، فهو شخص مسكين لا يعرف ماذا يفعل، ولا يمكنه أن يغيِّر شيئاً في هذه الدنيا. أما أنا فكاتب يُظهِر العالم ولا يصنعه.
أبحث عن الأشياء الأليفة، هذه
الأشياء تمتّد على حياتي التي عشتها، ورواياتي كلّها من هذه الحياة

■ من اختيارك لبيروت عنواناً لروايتك الأخيرة، هل هو دلالة للترابط الدائم الذي تدعو إليه بين مجريات الرواية وبين المكان الذي حدثت فيه؟ ولماذا تفضل أن يكون المكان معروفاً لك وأن يكون حاضراً في رواياتك؟
ـــ قصة بيروت واختيار العنوان ليست خاضعة لتفكير كبير واستراتيجي. أي على الكاتب اختيار عنوان ملفت للنظر، يمنح زائر المكتبة جرعة تشويق. ويمكننا القول إنَّ لكلمة بيروت جاذبيّة. كما أنّ أحداث الرواية تدور في بيروت، وكثيرون يقولون لي أنت قادم من الشمال، وتكتب عن زغرتا وعن طرابلس فقط، وأنا أردّ من خلال رواية «طبع في بيروت». فنحن منذ زمن نأتي إلى بيروت، لذلك أعرف بيروت جيّداً لأكتب عنها. نلاحظ في الرواية أنه لم يبق أحد في المدينة. فالذين كانوا لم يعودوا موجودين وأردت أن تكون أحداث هذه الرواية من الأساس في مطبعة، والمطبعة في بيروت موازية لتاريخ لبنان، أي أنَّ عمرها من عمر لبنان الكبير، حيث تأسّست منذ الحرب العالميّة الأولى تقريباً، أو بعدها بقليل، وما زالت حتَّى الآن، ومصيرها يظهر في الرواية. أتمنَّى أن يكون مصير البلد أفضل من مصيرها. وهي مرتبطة بالمكان ومرتبطة بالبلد، وأنا دائماً أحبّ أن يكون لديّ مكان مغلق قليلاً أوَدُّ أن تدور الأحداث فيه، وهو هنا المطبعة وأصحابها الساكنون فوقها، ينزلون إليها عبر درج داخلي. ما خلق جوّاً مسرحيّاً حيث تتفاعل الشخصيات مع بعضها ومع الآلات والحروف والطابعين والمخطوطات... وكل ما هو موجود في ذلك المكان. إضافة إلى أنّ عناوين رواياتي عبارة عن مبتدأ وخبر، فأردت تغيير هذا المسار ولو قليلاً.

■ أنت تقرأ بالفرنسيّة وتكتب بالعربيَّة، ولغتك بسيطة غير مزخرفة أو معقدة. ماذا تخبرنا عن هذه اللغة؟
ـــ صحيح أنِّي أقرأ وأكتب باللُّغة الفرنسيّة بشكل أساسيّ، ودرّستها طوال مسيرتي التعليميّة، ولي روايات بالفرنسيّة أيضاً. ولكن، عندما يرتبط الأمر بالخيال الروائي، تتعطّل هذه اللغة، وأعود إلى اللغة البديهيّة، اللغة العربيّة. ولكني لم أتوقَّف عن الكتابة بالفرنسيّة، حتَّى الآن أذكر بعض الصياغات بالفرنسيّة، وثمّة نقاد اكتشفوا أنّ جملي ورواياتي فيها نكهة فرنسيّة، لذلك تكون ترجمتها سهلة، وأنا سعيد بذلك. لا أعرف ماذا أسمّي ذلك، فأنا لا أستطيع أن أبتدع لغة، أكتب لغة عربيّة صحيحة، خالية من الصور والكاريكاتور، لغة بسيطة، يظهر معناها من أشياء صغيرة، أفعال الشخصيّات وأقوالها. أحبّ هذه النكهة، فهي ليست بالعربي الكامل، وليست لغة عربيّة غير صحيحة. أنا لا أعرف أن أكتب لغة عربيّة تقليديّة، وبرأيي أنّ الرواية قد أفسدت اللغة العربية، وكل روائي يكتب بلغته ووفق مزاجه. انظري إلى هؤلاء الشباب الذين أعمل معهم في مشروع «آفاق» لكتابة الرواية، أرى أنّهم يشكّلون ثورة فعليّة، حيث يتكلّمون بلسانهم ويكتبون به وليس بأيديهم.
■ في إطار حديثنا عن الأسلوب، والدّمغة الخاصّة، كيف تفسّر الانعطاف في شخصيّة اسماعيل الإرهابي في «حي الأمريكان»؟
ـــ كانت الرواية عن «حي الأمريكان» الذي فيه بؤس، واكتظاظ سكاني، ودعوات للإسلام السِّياسي والجهادي، الذي يؤدّي إلى الإرهاب والانتحار لاحقاً. وصلت لمرحلة لا مفرّ منها، أنّ هذا الشخص هو البطل، وأنا أريد خوض هذه التجربة. لأنّ «اسماعيل» يجسّد كلّ شخص يفجِّرُ نفسه يومياً كما نشاهد على الأخبار، وقد قلت في نفسي، إذاً فقد أرسلته أنا لكي يفجّر نفسه لكنّني لا أريد. لذلك فكّرت بأن يرجع، وإلّا لن نتصالح. تركت له باباً للعودة، لكي أكون راضياً وقادراً على أن أكتب هذه الرواية، ولكي أفتح نافذة لإنسانية رحومة، ولأنّ من يذهبون لا يعودون ولا يتراجعون عن مشوارهم، فجعلته يذهب ويُرسَل قبل أوانه، قبل أن يمتلئ عقلُه بأفكارهم، أي قبل أن يقطع صلته بأهله وينقطع نهائيّاً عن حياته. لذلك جعلته يلتقي بشخص من الطرف الآخر من المدينة، لكي تعود الحياة وتأخذ دوراً جديدًا وتنير له ضوءها. ولولا هذا التراجع، ما كنت كتبت هذه الرواية.

■ تحدثت عن تجربة ورشة «آفاق»، كيف تراها وما رأيك بالكتّاب الجدد؟
ـــ كانت ورشة «آفاق» تجربة مُغنية بالنسبة لي. فهي كناية عن مواكبة لعدد من الكتّاب الشباب الذين لديهم مشروع رواية حيث ترشح لهذه الورشة 150 روائياً شاباً أو أكثر، فاخترنا الأفضل منهم، لنقوم بمواكبتهم واستضافتهم. ورشة استضفنا فيها مواهب شابّة من أنحاء الوطن العربي، من جنوب السودان إلى اليمن والمغرب، ومن لبنان إلى الشتات الفلسطيني، ومن مصر القاهرة والجزائر... هؤلاء الشباب بين الأنا والواقع، وبين المناطحة القوية بالهويّة وهذه المصاعب، وهذه الحياة المفتوحة، وهذا العنف الموجود في كلِّ مكان، الذي ينعكس على الحياة الشخصية. العالم العربي في حالة توتّر، وهذه الروايات تعكس صورته بقوّة، وأنا أفرح بتواجدي معهم، وأحبهم كثيراً، فهم ناس ظرفاء، ونعيش أياماً حلوة مع بعضنا، ونكتشف نقطة ضعف كلّ إنسان وهواجسه، وأنا أحاول أن أقويّهم قدر المستطاع، وأعزّز ثقتهم بأنفسهم لأنني أعتبر أنّ لكل إنسان موسيقى خاصّة به، فلا أفرض رأيي عليهم، بل أحبّ أن أشجّعهم انطلاقاً من أسلوبهم، وأن أمسك بيدهم، كأنَّني صديق يقف بجانبهم.

■ أخذ الواقع الذي نعيشه اليوم وبالأمس، الحيّز الأكبر من رواياتك، فجاءت معظمها تحمل مآسي وآلام الحروب. فهل يمكننا القول إنّ رواياتك هي وليدة الحرب الأهليّة والصراعات السياسية؟
ـــ لو عشتِ مثلي في لبنان، في فترة ما بين 1950 و2016، واستطعتِ أن تمرّي بجانب العنف بدون أن تتأذي أو تتأثّري، فأنتِ بطلة! مَن لم يتهجّر مِن بيته؟ مَن لم يخسَر أقارب بالموت؟ ومن لم يتغير؟ لقد ضربنا العنف جميعنا فتهجَّرنا، وتدنَّت معاشاتنا، ولم يكن هناك مهرب، فأنا كنت في شبابي أمرّ بموجة تغيير، وأعيش الواقع. جرَّبنا وصفات عدّة، ولكنها لم تكن ناجحة.عشنا الواقع، ومن خلال الرواية بقيت أنظر إلى المكان ذاته الذي كانت فيه السياسة تدفعنا لكي ننظر إليه، من حيث شروط حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية... كان هذا الأمر يجذبني، ومن أجل ذلك كانت روايتي بطبيعة الحال رواية واقعيّة، من الحياة التي نعيشها على الأرض، فالحياة حياة وأنا لا أكتب عن أشياء لا أعرفها، أنا أكتب عن الذي أعرفه. أعرف الحيّ، كتبت «حي الأمريكان». أعرف شخصاً، كتبت «شريد المنازل»... أنا أبحث عن الأشياء الأليفة، هذه الأشياء تمتّد على حياتي التي عشتها، ورواياتي كلّها من هذه الحياة. ومعظم مؤلَّفات الكتّاب هي كذلك، لست الوحيد. الزمن الذي عشته، وزمن شخصياتي هو زمن أعرفه، وأعرف أجواءه ومعطياته، لذلك يصبح لدي نوع من التوثيق للواقع، فتنبض الروايات بأشياء من الحياة الحقيقيّة، لأنها نابعة من الواقع. أمّا توليفها الروائي والخيالي، فذلك بحث ثانٍ يقوم به كل شخص بطريقته وأسلوبه. لبنان الذي عشته أنا، والمكان الذي أتيت منه فيه عنف أولاً في مرحلة الطفولة، وعنف ابتداءً من 1975، وعنف الحروب الإسرائيلية، والسوريّة، والاشتباكات على أنواعها، هي لوحة فيها عنف من كل الجهات، وفي آخر الرواية قلت إنها انتهت، وها هي بيروت حيَّة.

■ لماذا ابتعدت عن القصّة القصيرة كلّ هذه المدّة بعد «الموت بين الأهل نعاس»؟
ـــ لقد بدأت كتابة القصص القصيرة، عن شخصيّات أعرفها، فوجدت أنّه لدي قابليّة لأستمرّ في هذا المجال. فكتبت «اعتدال الخريف»، وهي قصة صغيرة لكنها كبيرة. وبعد ذلك أصبحت قصصي روايات بعد أن عشت لذة أن أكتب وأكتب. بعدها عدت إلى الروايات الصّغيرة الحجم، فلا بد من الاقتصاد والاختزال. وفي هذا الزمن الذي نعيشه، لا بدّ لنا من مواكبة القرّاء في انجذاباتهم العديدة. الكتاب الصغير أسهل للجميع، فأسلوبه اقتصادي، وأنا معجب بهذه الكتب. هناك العديد من الكتّاب الأجانب الذين يكتبون بهذه الطريقة، في حين أنّ هناك نزعة عربية للثرثرة، وكأن العربي لا يقدر أن يوصل فكرته دون أن يقلبها ويستطرد فيها. أنا لا أحب الثرثرة وأحاول أن أخفّف منها، فأطارد أصغر الأحرف الوحشيّة في الجمل، أزيلها بواسطة آلة الاختصار العظيمة، هذه التي على الكمبيوتر، ولو كان الأمر باليد قد يختلف الأسلوب.

■ كيف ترى مستقبل اللغة العربية في الروايات والأدب؟
ـــ تتحوّل اللغة العربية إلى لغة أفراد، خارجة عن سياق المدرسة الأدبية والتقليديّة التي نعرفها، فقد أصبحت لغة شوارع، تتضمّن شتائم، فمثلاً يكتب المغربي محمد بنميلود «وكأنَّ وجه المليء بالسكتريسات» سألني: ماذا تقول أنت؟ فقلت: تستطيع أن تقول وجهه فيه ندوب. فقال: وجدتها مناسبة وسأكتبها. ولو ترينَ القاهري أحمد مجدي همام شابّ كتب رواية جميلة جداً فيها لغة شوارع. أنا لا أعرف أين ستصبح اللغة، لكنّني أؤكّد أنها تعيش مخاضاً قوياً. وفي رأيي أنّ الرواية تشتَّت اللغة، في حين أنّ الشعر يمسكها، حتى الشعر الحديث يشدّ اللغة ويقويها.