تسبق هذه المُقدمة النّص الأول من الكتاب، الذي حمل توقيع الروائي خالد خليفة. الأخير ما زال مُصرّاً على عدم ترك الشام والإقامة في أيّ منفى يريده. في كل مرّة يُعاد أمامه سؤال «لماذا لا تُغادر يا خليفة!»، يُكرّر الإجابة ذاتها: «أنا أموت لو تركت الشام». في نصّه «كل نظرة هي نظرة وداع»، يُسجّل صاحب «الموت عمل شاق» يومياته «الشاميّة» بعدما «رحل الجميع»، لكن من بقى، يحاول القبض على «لحظات الفكاهة». لكن الضحك لا يُشبه ذلك الضحك القديم. يقول خليفة لنفسه: «حتى الضحك تغيّر» إلى أن يكتشف كم أنه قد صار وحيداً، فالأصدقاء خارج البلاد «ومن بقى منهم مشغولون بالمحافظة على حياتهم كما أفعل أنا».
خالد خليفة «يموت لو ترك الشام»
بدوره، يكتب الزميل خليل صويلح «حميميات عابرة»، مستعرضاً ملفّات مُتراكمة لديه عن ديناصورات ومقابر وأوهام وقوائم عن أشخاص تحوّلوا إلى أرقام لأسماء مجهولة في نشرات الأخبار أو أسماء مُستعارة تعمل على توثيق مستوى العنف بصرياً مرفقاً بهتاف «الله أكبر».
خلال كل هذا، يستعيد صاحب «ورّاق الحُبّ» تدوينة لصديق له كتبها على تويتر «هذه مواصفات نموذجية لحرب أهليّة مؤكدة، ولن ينجو منها أحد». لا يملك صويلح إجابات حاسمة هنا أو أنه لا يريد «الإنزلاق» إلى مثل هذا اليقين، فـ «أمحو هذه الفكرة من دماغي» حيث يريد أن يصحو من هذا الكابوس «كأن ماحدث حتّى هذه اللحظة مجرد منام مفزع».
من جهته، دوّن عامر مطر شهادته من مدينة الرقة أيّام كان مقيماً فيها قبل انتقال حياته إلى ألمانيا. يكتب عن «جثة الكاميرا وُجِدَت.. ماذا عن جثة أخي!». يُسجل وصفاً لحادثة تفجير سيّارة مُفخخة في مكان لم يستطع أحد الوصول إليه بسبب حظر التجوال الذي فرضه «داعش» أثناء «معركته مع لواء أحفاد الرسول بغرض السيطرة على مدينة الرقة». في ذلك المكان، بقيت جثة واحدة ممددة «جثة واحدة إن لم تكن لأخي، فستكون لأخ آخر، وأمي تنتظر خبراً عن ابنها الصغير المفقود الذي ذهب لتصوير المعركة ولم يعد إلى بيتها»، فيما وجد طاقم الإسعاف «جثة محترقة لكاميرته». ستأتي لاحقاً رحلة البحث في برادات المشافي والتفتيش داخلها، وهي التي «ينتظر الموتى فيها الأموات من يعرفهم». لكن لا أحد. يذهب عامر لوصف حالة والدته التي ما زالت «تنظر إلى الله وتتمنى أن ينظر إليها هو أيضاً». يحدث كل هذا و«الدولة الإسلامية تردّ على التظاهرات بالرصاص، فلم تعد تظاهرة تخرج لفرط الخوف من القتل والخطف والقتل اللذين أرهبت بهما المجتمع في الرقة». وهي «الدولة» التي صارت تسيطر على كل شيء «وعلّقت علمها الأسود على سارية المدينة وأعادت غطاء الخوف على قلوب الناس».
بدوره، يكتب خضر الآغا المقيم حالياً في ألمانيا «السوريون يستعيدون ألسنتهم»، مشيراً إلى أن السوريين لم يكونوا يتكلمون إلا بلسان النظام، وعليه كان صوتهم «مُزيفاً ذا اتجاه واحد»، لكن بسبب «الثورة»، ظهر أنه قد «نبت لهم لسان، لسان خاص، لسان يقول ما يريدون هم قوله لا النظام». أمّا عمر قدور الذي انتقل إلى باريس، فكتب عن «العيش بمحض المصادفة». لا يتكلمون في البيت كثيراً عن «الحوادث القاسية»، كقصص الاعتقالات وقد كانوا شهوداً عليها «نتجاهلها قدر الإمكان. ثمة تواطؤ مُضمر يدفعنا إلى عدم التحدّث في المشاهد المروّعة التي يراها كل منّا». فالصمت أحياناً «نوع من الأمل الدفين بأنّ ما نعرفه قد يرقى إليه الشك، وأن الشك سيتبدد عندما نتكلم ويؤكد واحدنا للآخر هول ما يعرف».
إلى كل هؤلاء، ضم العمل أيضاً شهادات فوّاز حداد (أما القتيل فيستحق الموت)، وديما ونوّس (عن البيوت التي وراءنا وسوريا التي أمامنا)، ومنذر المصري (دع شعبي يحيا)، وروزا ياسين حسن (عن القنّاصة وطعم الثأر والخيبات)، ومحمد المطرود (في اكتشاف الحنين وسواه)، وياسين الحاج صالح (دروب المنفى)، وسمر يزبك (بورتريهات السجن)، ودار نوّاف عبد الله (أفكار مبعثرة)، ونهاد سيريس (بلد الموسيقى والحرب)، ورياض الوحش (هوية مكسورة)، إلى جانب شهادة «من يوميات المربع الأمني» لسلمى سالم وهو اسم مُستعار لكاتبة سورية تقيم في الداخل، وفق ما جاء في قائمة التعريف بأسماء أصحاب الشهادات التي حواها الكتاب.