اختار الروائي الجزائري أمين الزاوي في روايته «قبل الحب بقليل» (ضفاف/ الاختلاف) اسم «هابيل» كي يروي سيرة مدينة وهران من وجهة نظر «القتيل». تتناسل الحكايات وفقاً لتسلسل الأحرف الأبجدية، كما لو أنه يعيد ترتيب ما هو مهمل في المعجم، عبر الحفر عميقاً في التاريخ المنسي لبلاده قبل الاستقلال وبعده، في ثنائيات متضادة، فيما يسعى الجنرال المتقاعد «سي سفيان» إلى كتابة سيرته المزيّفة، نقع على بطلٍ آخر هو «بابا سليمان»، الذي انتهى حارساً في كراج. الأول يعيش حياته في فيلا كانت للحاكم العسكري الفرنسي بصحبة «سارة» التي ألقت بها محن الترحال والتشرّد إلى أحضان الجنرال بعكاكيزه المتعدّدة، فيما أُهمل الثاني. وها هو هابيل بائع الكتب المستعملة يسعى إلى تحرير سيرته على نحوٍ آخر، كاشفاً هول الزيف الذي لحق بتاريخ الجزائر، وكيفية تصنيع أبطالٍ من ورق وأوهام وأكاذيب. جنرال طاووسي يرمم سيرته بعكاكيز اصطناعية، وآخر ينخرط في الحياة الهامشية كمحصلة لعنف مستتر أفرزته مرحلة هواري بومدين بكل تناقضاتها.
يغلق القوس في بيروت إيذاناً بحقبة عنف أخرى
هكذا سيجد هابيل نفسه عبر مراجعاتٍ صارمة بأن حادثة مقتله الأولى كانت على يد أبيه بكرسيه المقدّس، كما سيُقتل لاحقاً بسبب رجالٍ آخرين اعتلوا كراسي ليست لهم بخديعة تزييف الوقائع، لكن أحلام اليقظة التي استسلم إليها ببناء علاقة مشتهاة مع سارة زوجة الجنرال، لن تصمد طويلاً أمام أهوال ما سيواجهه لاحقاً بسبب التحولات التي انعكست على الشارع الجزائري لجهة العنف المتراكم، والفرز الطبقي الذي أفضى إلى وجه آخر لمدينة وهران التي كانت يوماً ما، صورة مثالية للتعددية الثقافية. ستنتهي معظم شخصيات الرواية إلى الإقامة في فندق للعابرين، كما ستنطفئ أحلام «هيتشكوك» المهووس بالسينما بمقتله، من دون أن يحقّق فيلمه «لا قمح ولا عنب».
هذا العنوان يمكن تعميمه على أحوال البلاد بأكملها لجهة فشل المشاريع التنموية، وارتجالات السلطة في إصدار القرارات الهوجاء. هي في نهاية المطاف لم تحقّق لا قمحاً ولا عنباً، بل أرضاً قاحلة، لم تعد مكاناً لصناعة وتصدير النبيذ الفاخر. تحريم زراعة الكرمة وصناعة النبيذ عتبة أولى للدخول في زمن التحريم وصعود الأحزاب الإسلامية المتطرفة ببرامجها العنيفة التي أفرزت زمناً آخر، وبثوراً في الجسد المريض، بما يشبه «طاعون» ألبير كامو، الكتاب الذي كان مرجعاً معرفياً لأكثر من جيل، قبل أن يقتحم المتطرفون عربة الكتب المستعملة ويهددون هابيل بضرورة بيع الكتب الدينية بدلاً من الكتب الشيطانية التي خلّفها المستعمرون في مكتبات البيوت التي هجروها قسراً. فقر سيرة الجنرال كما حاول هابيل تسجيلها يعوّضه ثراء حكايات الآخرين، كأن الهامش المهمل هو من يؤثث مجرى الحكاية، في المقام الأول، وخصوصاً أن صاحب «السماء الثامنة» يشتغل على تفكيك السرد وإعادة تركيبه من وجهة نظر الخاسر أو المقتول، بإزاحة الأكاذيب عن مدوّنة بلاد لطالما كانت أسيرة الشعارات أكثر من اعتنائها بالمتن الحقيقي للوقائع، وحيرتها بين «البار والمنبر»، وتحوّل معنى الإقامة. وإذا بوهران العريقة بعمارتها وأسواقها وروائحها تنفي معظم أبنائها إلى فندق للعابرين، أو إلى رصيف، أو كراج للشاحنات. وتالياً فإن هذه الرواية، في أحد أطيافها، مرثية لمدينة وهران، لحظة غرقها في مستنقع العنف، واسترجاع لحقبة السبعينيات الملتهبة إثر غياب الرئيس هواري بومدين في اليوم نفسه الذي مات فيه بابا سليمان أحد الثوّار القدامى. سيموت الثاني بصمت، فهو «يوسف الذي قتله أخوته»، فيما ستحتل صور الأول واجهات الصحف، في الوقت الذي كان الورثة يتقاسمون فيه غنائم السلطة، على مقربة من «جنازة الرئيس». وسوف يعلّق هابيل على هذا الحدث بقوله «تغيّر الذئب ولم يتبدّل القطيع». على الضفة الأخرى، كان هابيل المطرود من الكراج بعد موت بابا سليمان يجرّ عربته إلى الفندق، وقد غنم غرفة غسيل، كان بعض النزلاء ينوون تحويلها إلى مصلى بمكبّر صوت للأذان، ولكن لماذا عاد أمين الزاوي إلى هذه الحقبة؟ على الأرجح أراد تصفية حساب ضرورية لإعادة كتابة تاريخ الجزائر من منظور آخر، وتقشير اللغة من أوهام البلاغة الجوفاء، جنباً إلى جنب مع إغواء الحكايات المتوالدة أبجدياً، واستعادة أرواح كتّاب ومفكرين ذهبوا ضحية أفكارهم المضادة. هو يهدي روايته إلى «عبد القادر علولة، وطاهر جاووت، وفرج فودة، ومهدي عامل، وحسين مروة»، موزّعاً أسباب الكارثة على خريطة أوسع من بلاده، إذ يغلق القوس في بيروت إيذاناً بحقبة عنف أخرى ستشهدها هذه المدينة «لأنها توأم وهران في الحرب والحب والحلم أيضاً».