يشتغل بيار بيارد في منطقة نقدية بكر. لا يبتكر الأكاديمي والمحلّل النفسي الفرنسي نظرية أدبية، بقدر ما يلهو عند تخوم الكتابة لزعزعة قدسيتها. الأفكار التي يقترحها تتجاوز عملياً الألعاب المسليّة نحو ما يمكن أن نسميه «مشاعية النص» في مواجهة فكرة «موت المؤلف»، وفقاً لمفهوم رولان بارت، أو ميشال فوكو. التحولات التي دشنتها الألفية الثالثة معرفياً، أفسحت المجال أمام مشروعه النقدي المغاير الذي افتتحه بكتاب «كيف نحسّن الأعمال الأدبية الفاشلة» (2000)، مبيّناً أنه ليس بصدد خيانة المؤلفين بقدر عنايته بتغيير بعض مفاصل نصوصهم، التي لا تبدو منسجمة مع المستوى العام لمؤلفاتهم. أما مشروعه الثاني في هذا السياق، فكان «كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها بعد» (2007)، وهنا تبدو اللعبة أكثر إثارة. الأمر يتعلّق هذه المرّة بادعاء بعض الكتّاب أو النقّاد قراءة كتاب ما، من دون الاطلاع عليه، عبر تصفّحه على عجل، أو أن يكون قد سمع عنه، أو نسي محتواه، كي لا يعترف بجهله أمام قرّاء يفترضون سلفاً، أن هذا «المثقف» قرأ كل الكتب المعروفة والمغمورة معاً. وهنا ينصح بارتجال رأي نقدي مع بعض الزخرفات العمومية، مستشهداً بأسماء كبيرة كان لدى أصحابها جرأة الاعتراف بعدم اطلاعهم على كتب أساسية في التراث العالمي. ها هو فرانسوا بيغادو يقول «في الحقيقة أنا لم اقرأ «الكوميديا الإلهية» وقد يكون هذا مشكلة كبيرة، إذ انه لا يمر إفطار أو عشاء من دون أن يسألني القراء عن هذا الكتاب، مع ذلك، املك قدراً كافياً من المعلومات التي تمكنني من طرحه على نحو كافٍ والتعريف به في تلك النقاشات المريرة».
في كتابه «ماذا لو غيّرت الأعمال الإبداعية مؤلفيها» (2010) الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (دار نينوى ــ ترجمة محمد أحمد صبح)، يذهب أبعد في اللعب، حين يتساءل: «ماذا لو استبدلنا مؤلفاً بمؤلف آخر، قد يبدو أكثر ملاءمة للعمل؟». تتيح هذه الفكرة، وفقاً لما يقول، إظهار النصوص تحت ضوء مختلف عمّا ألفناه، مبرراً هذه الممارسة بأنها «دفاعاً عن الحق في التخيّل».
هكذا ينشئ بيارد مخططه في نسف النصوص الأصلية وتغيير نسبها عن طريق «الاستبدال»، وهو بذلك يخضع مفهوم المؤلف للارتياب، كما ستمنحنا التغييرات الجزئية على محتوى كتابٍ ما، مزيداً من الدينامية، قبل أن يكسر حاجز التحريم الذي يقضي بأن لكل عمل مبدعاً وحيداً، ناسفاً مكوّنات الهوية الأصلية للعمل إلى حدود تغيير الشخصيات واللعب بمصائرها على نحوٍ آخر، ليس في الأدب فقط، إنما في حقولٍ أخرى مثل الفلسفة والسينما والموسيقى. هكذا يبدأ عملية الهدم من أكبر قلاع النصوص الكلاسيكية «الأوديسة» وزعزعة يقين القارئ بمؤلفها هوميروس، متكئاً على استنتاجات صموئيل بتلر في كتابه «مؤلف الاوديسة»، بأن من كتب هذا العمل امرأة لا رجل، كما أن نبرتي «الأوديسة»، و«الإلياذة» مختلفتان بصورة محسوسة، إذ تغلب على الرجال في «الأوديسة» مشاغل أنثوية، على عكس ما يحدث في «الإلياذة»، وينصحنا «المؤلف» بمحاولة إعادة قراءة هذا العمل، بناءً على هذه المعطيات الجديدة، ولكن ماذا لو كان شكسبير يحمل اسم إدوارد دو فير، كونت أكسفورد السابع عشر، وليس ابناً لبقّال في ستراتفورد، كما ظننّا طويلاً؟ في كتابه «تعرف هوية شكسبير» يعتمد توماس لوني على أسباب كثيرة تؤكد هذا الاحتمال، نظراً للثقافة الواسعة التي يتمتع بها الكونت، ولا تتواءم مع رجل ستراتفورد، إذ ليس هناك ما يؤهله لكتابة مسرحيات مثل «هاملت»، أو «عطيل»، أو «العاصفة». بالطبع هذا مقترح لا أكثر، ذلك أن هناك شكسبيريين يرفضون هذا الاحتمال، فيما ينافح آخرون عن هذا الاحتمال، مثل فرويد، الذي أولى اهتماماً كبيراً لهذه الأطروحة، وخصوصاً في تحليله لمسرحية «هاملت». ويخلص بيار بيارد إلى أن شكسبير ليس اسم علم بقدر ما هو كناية عن مؤلف خيالي، وتالياً، فإن حلّ لغز المؤلف هو شرط مسبق لقراءة متجددة للأعمال الأدبية الكبرى، وهذا ما يفتح على بابٍ آخر يتعلّق بأعمال حملت تواقيع مستعارة وأسماء وهمية بذرائع مختلفة. في مكانٍ آخر، يقترح نقل تحفة لويس كارول «أليس في بلاد العجائب» من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، نظراً للوشائج المتينة التي تجمعها بالسريالية والتحليل النفسي لفرويد، ما يتيح قراءة مختلفة لها، ومنحها ما تستحق خارج إطار الرواية المسليّة للأطفال.
من التغييرات الجزئية للأعمال ومؤلفيها، ينتقل كاتبنا إلى فكرة أكثر راديكالية حين يضع اسم مؤلف على عمل لمؤلفٍ آخر، مخترعاً وقائع جديدة ومثيرة حقاً، كأن يكتب كافكا رواية «الغريب» بدلاً من ألبير كامو، وأن يكتب تولستوي «ذهب مع الريح» بدلاً من مارغريت ميتشل، وأن يكتب دي. اتش. لورانس «أعمدة الحكمة السبعة»، فيما يستعير ت.ي. لورانس «عشيق الليدي تشاترلي»، وأن يكتب فرويد «الأخلاق» بدلاً من سبينوزا، ويُخرج هيتشكوك «المدرعة بوتمكين» بدلاً من إيزينشتاين. ونحن نقترح: ماذا لو كتب نجيب محفوظ «مدن الملح» بدلاً من عبد الرحمن منيف؟