مَدخَلٌ لتَخفِيفِ الوَطْء
الرَّوائحُ تَتَدافع
رائحةُ شِواءٍ على الحَطب،
نِساءٍ خَرجنَ لِلتوّ،
بُن يَخشى مَخالِبَ الدُخان
الرَّوائحُ تَتَهافت
رائحةُ سِروالٍ من أفغانستان،
وجه من الحجاز،
كَرّاديّ سَيَصطَخِبُ بالسّراويلِ والوجوهِ بَعدَ قليل
الرَّوائحُ تَتَطاير

رائحةُ جَسدٍ يَحترقُ صامتاً،
مَلابسَ تَشْتَعلُ وحيدةً،
إطاراتِ سيّارة قالت للسّماء: الله أكبر
الرّوائحُ تَتَقاطع رائحةُ حلوى إيرانيّة،
مُحرّكات لسيّارات أميركيّة،
أرصفة بحَجر تُركيّ،
عَتَب لفروغ فرخزاد ووالت ويتمان وناظم حكمت
العيونُ تَتَهامس
عين الكهلِ مُتذكّراً طَعمَ التَّجاعيد،
الشُّرطي تائهاً في قاموسِ الأسى،
الصّبيّ على كُرةٍ تَنتظرُ التصويب
العيونُ تَتألق
عينُ صَبيّة بنظراتٍ تَعلو وتَخفُتُ،
مُشرّد يَرقصُ للفُتات،
مَنفي يرى نَفسَه في مرآةِ كلواذى (1)؛
قَصيدة على ورقةٍ منزوعةِ البياض
العيونُ تَتَجمّع عينٌ تلفظُ حِكاياتِها عِندَ عتبةِ بائعِ خضار،
عينٌ لشهيدٍ تخافُ حماسةَ النعوشِ والأكفان
لشهيدٍ تُحصي أنفاسَ الأبرياء
لشهيدٍ تلبطُ تَحتَ صورته الأسماك
لشهيدٍ تَطلبُ ابتسامتُه الرفقَ بالسيّدِ عمود الكهرباء
الإصغاءُ يَتَضاءل
الناسُ لا تُصغي إلا لأصواتِ نداءات التنزيلات الخاصّة
أنا لا أسمعُ إلا صوتَ كَعبها العالي
السّمّاك لا يُنصِتُ لاحتجاجِ ضَحيته الجديدةِ في الماء
الأبنيةُ لا تَتَهجّى أسماعُها اسمَ زَها حديد أو رِفعت الجادرجي
الإصغاءُ يَنتَحر
لا صوتَ يَستدلُّ إليكَ بَينَ عُشّاقِ الشّروقِ والغروب
لا عَبرةَ تميّزُها بينَ قوافلِ الحزانى
لا مَجدَ لصُفّارات مَواكبَ مُظللة
اللِّسانُ يُفاوضُ الوَهن.
السائر: مَذاقُ أنْ تَعبُدَ أجفانَ الحذرِ
الحاضرُ في السواد: نَكهةُ أنْ تُتقنَ مَلَكة البُكاء
الحالم: مَضغُ أزمانٍ تُدمِنُ يُسرَ الرثاء

أديمُ الحيّ... مجازات الأسرار

«الرَّاهباتُ» (2)، اسمٌ لمُستشفى نَركُضُ إليه ونَحقِنُ الأجسادَ بتحيّةِ المسيحِ مَرسُوماً على الحائط
وفي الشّارع، ذِهاباً وإياباً
ما منْ كنيسةٍ تُحصي أعدادَ من ترسِمُهم اللحظةُ على الحيطان
...
مقهى إرخيته (3) خائف
والبلادُ تَبعثُ إليه بَرقِياتٍ تلو بَرقِيات
«إيّاك، إيّاك وبيعُ الشاي للناسِ على الطُرقات»
قالتها -نِيابةً عن المتحدّثِ باسمِ البلاد-
رائحةُ ديناميت تَهُبُّ من الجِسورِ والبيوتِ والسيّارات...
شايٌ مُهيّلٌ بالخوفِ هو كلُّ ما نَشربُه!
طاولاتٌ وكراسٍ هي آخرُ ما نَملكُ من الحياة!
وأينَ هو إصغاءُ الحياة؟
تَسمعُ صوتَنا، فتبعثُ المُتعةَ مندوباً عنها،
تَجلسُ قاصدةً الرَّأفةَ بأمواتٍ مُؤجلين
فيَتأخّرُ قُدومُ الشاي
تُغادرُ المشهدَ
وإرخيته عامرةٌ بالخوف
....
صَخبُ زائري الحيّ
وافتتانُهم بِمحالِ مَلابسِ النِّساء
وصدى لَهفةِ شابٍ للفوزِ بضحكةِ
شَقراءَ أو سَمراءَ من المارّة
تأخُذُك كٌلُّها إلى سيرةٍ قديمةٍ لشارعِ «الداخل»
الكرّادةُ من بِدايتِها حتّى نهايتِها
تَتَقلبُ بَينَ صورِ السُرادقات وعُطورِ الفاتنات
والصِّورُ أنَفسُها تَتجاورُ في حيّ
يَبتَسمُ للمُتبرجات والمُنقبات
وللضحايا والأحياء الضحايا
.....
الهُدوءُ مُتَدَرِّجٌ في هذا الفضاء
يَتَصاعدُ كلّما ذَهبت بك الخُطى إلى النهايةِ تُجارٌ وباعةٌ مُتجوّلون وزبائنُ ورَسّامون يُؤنِسون براءةَ المسير...
تَمضي فتَمضي،
تأتي نَسَائمُ أكثرُ ألفةً
ولا سِرَّ تُخبئه الأنفاسُ
فالماءُ على اليمين
والنخيلُ يُضيءُ جهةَ اليسار...
هنا تُعلِنُ الجادريةُ (4)
انتهاءَ حشدِ المرتاحين لخواتيمهم.
(1) كلواذى: الاسم القديم للكرّادة وردت عنه إشارات لدى ياقوت الحموي (1178- 1225) في «معجم البلدان» وفي مصادر أخرى.
(2)الرَّاهبات: مستشفى باسم «القديس رافائيل (الراهبات)» افتتحت عام 1950، في بداية شارع «الكرّادة داخل» بعد عبور نصب كهرمانة بخطوات.
(3)مقهى إرخيته: اسم المقهى من اسم منطقة إرخيته في الكرادة (الداخل تحديداً)، والاسم لسيّدة كانت تملكها أوائل القرن الماضي، إذ يعني إرخيته، وهو مزيج من كلمتين سريانيتين، «طريق الكنيسة».
(4) الجادرية: المنطقة البغداديّة التي تنتهي عندها الكرّادة الشرقية بشقيها «الداخل» و»الخارج».
* شاعر عراقي