الديموقراطية شكل من الحكم (أو الحكم الذاتي) يتيح سبلاً معتبرة يستطيع معظم المواطنين من خلالها أن يمارسوا تأثيراً كبيراً في صنع القرارات والسياسات. ربما لم يتردد في آذاننا في السنوات القليلة الماضية مصطلح أكثر من الديموقراطية. مع ذلك، لم نعثر في كل ما اطّلعنا عليه على شرح للمقصود والمحتوى والجوهر. كثر يرددون المصطلح من دون معرفة ذلك، ويضيعون، ويضيعون المستمعين، في متاهات. من هنا تأتي أهمية كتاب «تاريخ الديموقراطية» («بلوتو برس» ــ بريطانيا ــ 2013 ـــThe History of Democracy/ Pluto Press) لبرين ربر، ذلك أنه الأول، وفق معلوماتي، الذي يتناول المصطلح أو المفهوم ضمن السياق التاريخي بعيداً من الدعاية السياسية والغوغائية التي تتحكم في عرض وسائل الإعلام/ التضليل للمقصود. الكاتب النيوزيلاندي أستاذ محاضر في كلية العلوم السياسية في «جامعة أوتاغو»، وأصدر كتباً عديدة أخرى.
مادة الكاتب موضوع تخصصه، وتتناول بالتحليل والعرض مفهوم الديموقراطية في سياقها التاريخي، منذ ورودها في مؤلفات الفلاسفة الإغريق القياسية. هذا يعني، دوماً بحسب الكاتب، التغير الدائم الذي حصل في جوهر المصطلح أو المفهوم، وبالتالي خطأ المنحى الليبرالي والنيوليبرالي الذي يحاول تثبيت معنى أبدي يخدم توجهاتهما الفكرية والاقتصادية، وبالتالي السياسية. وهذا تحديداً ما يدفع المؤلف إلى تناول المفهوم زمنياً ومعناه في كل مرحلة، ما يثبت صحة رأيه بخصوص كونه متغيراً وليس ثابتاً.
انتقال المؤلَّف إلى مناقشة المفهوم في النظام الجمهوري ومن ثم الإمبراطوري الروماني يوضح تطوره وكيفية استغلال الطبقات الحاكمة له. تلي ذلك المجتمعات الأوروبية الإقطاعية ومن بعدها الرأسمالية حيث يتسيد الفهم التمثيلي للديموقراطية. الثورة الأميركية شكلت مرحلة أخرى من تطور المفهوم حيث حدد المعنى دستورياً، تلتها مرحلة ثورية جديدة تمثلت في الثورة الفرنسية التي أضفت جوهراً جديداً إلى المفهوم ومعناه هو التشاركية. المؤلف خصص فصلاً لمسألة التوسع الرأسمالي والعولمة، وآخر لمعالجة النظرة الماركسية، وليس اللينينية، للديموقراطية التمثيلية، نقدياً. ويعقب ذلك بفصل يعالج فيه الديموقراطية الاشتراكية التشاركية كما تجلت في كومونة باريس وفي ثورة أكتوبر في روسيا، لكن قبيل قضاء ستالين عليها.
يتناول المؤلف الديموقراطية في سياقها التاريخي

في غياب تعريف «الديموقراطيين» للمفهوم، وانطلاقاً من تمسكهم بمفهومهم القائل بوجود شكل واحد هو الديموقراطية التمثيلية، يقدم الكاتب تعريفه الماركسي الشخصي وهو: «[ما] تعنيه الديموقراطية أو تدل عليه بإيجاز لا يُخِل، هو أنها شكل من الحكم (أو الحكم الذاتي) يتيح سبلاً معتبرة يستطيع معظم المواطنين من خلالها أن يمارسوا تأثيراً كبيراً في صنع القرارات والسياسات». في رأيه أن هذا سيشرح على نحو كاف مقاربته الاجتماعية التاريخية والفلسفية للمادة وصحة ذلك. بناءً على ذلك، يرى الكاتب أن البشرية عرفت ثلاث «ديموقراطيات» هي الأثينية، والتمثيلية السائدة في الدول الأوروبية، وأخيراً الديموقراطية التشاركية.
انطلاقاً من حقيقة أو الادعاء بأن الهدف الأسمى للبشرية هو مستقبل أفضل للجميع، فمن الضروري، تبعاً لذلك، إفساح المجال أمام مشاركة المواطنين كافة في اتخاذ القرارات واتباع السياسات التي تؤثر في حيواتهم. الشكل الديموقراطي الأخير، أي التشاركي، يختلف عن سابقيه من حيث مشاركة كل المواطنين في صنع القرارات، بينما اقتصر الأمر في الشكلين السابقين له على الفلاحين في أثينا والطبقة المتوسطة والمثقفين، لكن على نحو محدود. القوى المطالبة بالديموقراطية في روسيا والدول الرأسمالية الأوروبية كانت من العمال والفلاحين والطبقة الوسطى وفئات المثقفين.
الكاتب يرفض الديموقراطية التمثيلية، لكن ليس من منظور فكري عقدي، وإنما انطلاقاً من تجاربها ونتاجاتها. فهو يذكّر القارئ بأن الديموقراطية التمثيلية الليبرالية في الدول الرأسمالية المصَنَّعة، أو في أوروبا والولايات المتحدة، أنتجت حربين عالميتين قادتا إلى دمار مادي ومعنوي لا يمكن حصره. فتاريخ تلك الدول هو تاريخ ديموقراطياتها أيضاً.
إضافة إلى ذلك، أن الشكل الليبرالي للديموقراطية، الذي كان مفيداً إلى حد ما في مرحلة تاريخية ما، تجاوزه الزمن لأسباب عديدة يذكر منها الأزمات والكوارث الاقتصادية المتتالية في تلك الدول، وبالتالي في العالم التابع للنظام الرأسمالي والمرتبط به عضوياً. كما يذكّر بحقائق اقتصادية وجب عدم نسيانها وهي الإفقار المستمر للجماهير وتمثل ذلك في شعار «احتلوا وول ستريت» و«نحن الـ 99%» الذي يشير إلى أن 1% من سكان الولايات المتحدة الأميركية يملكون أكثر من نصف الثروة الوطنية. من هنا، يوضح الكاتب أن الديموقراطية نتاج تطور تاريخي للمجتمعات البشرية وليست إنتاجاً من مجموعة من النخب الفكرية والمنظرين الليبراليين. الديموقراطية التشاركية التي يدعو إليها الكاتب تبنى من أسفل إلى أعلى، وتتحقق بالمشاركة الشعبية المباشرة ابتداءً من المجالس المحلية.
أخيراً، ننوّه إلى أن الكاتب عرض الرأيين السائدين في الموضوع وناقش كل منهما على حدة، نقاشاً فكرياً فلسفياً، مستشهداً بمراجع واقتباسات كثيرة وخصوصاً كتابات الفلاسفة الإغريق والرومان.